هذا كتاب شديد «الخبث»، إذْ يغلّف قطعةَ «المُرّ» بطبقة من السكّر، فتتجرع الوجعَ وأنت تبتسم. ينتمي إلى جنس الأدب الساخر في مستواه الرفيع الراقي، الأدب الذي يطرح المشكلةَ، اجتماعيةً كانت أو سياسية، على نحو مبهج بسيط، يخلو من التقعّر، وكذلك من الإسفاف اللفظيّ أو الاستخفاف، ولا يخلو من العمق المُلهِم. يرسم البسمةَ على وجوهنا، لكنْ يحثُّنا على تبصُّر المحنة بعيون مفتوحة على الوجع، بعد نزْع خيط المرارة منه. عن دار «ميريت» للنشر والتوزيع، صدر كتابٌ مهمٌّ، لا سيما في اللحظة الانتقالية الراهنة التي تحياها مصرُ بعد ثورة كانون الثاني/ يناير الشريفة، التي ربما من أهم تجلياتها، غير الإطاحة بنظام مبارك، أنها أجهضت بوادر فتنة طائفية طاحنة لاحت نذرُها السود في الأفق العام الماضي، الذي كان الأسوأ على أقباط مصر منذ عهد طويل، حتى أسماه المسيحيون «عام الأحزان»، بدايةً بمذبحة نجع حمادي في كانون الثاني/ يناير، التي راح ضحيتها ستة مسيحيين فور خروجهم من صلاة العيد المجيد، ومروراً بأحداث العمرانية التي قَتل خلالها رجالُ البوليس ثلاثةً من الأقباط العُزّل، وانتهاءً بمجزرة كنيسة «القديسَيْن» بالإسكندرية، التي قضى فيها 25 قبطيّاً، أنهوا لتوّهم صلاة رأس السنة ليلة 31 كانون الأول/ ديسمبر 2010. تلك الفتنة التي كادت تطيح بوحدة نسيج المجتمع المصري، الذي شهد التاريخُ على تماسكه عبر خمسين قرناً، لولا ثورة يناير المجيدة. عنوان الكتاب: «أنا م البلد دي، يوميات قبطي ساخر». هو الكتاب الأول للكاتب الساخر، ورسّام الكاريكاتور في مجلة «الكواكب»، فيليب فكري. الغلاف إهداءٌ من الفنان المصري الكبير مصطفى حسين، والتصدير لكاتبة السطور. الشِّقُّ الأول من العنوان مكتوبٌ بالمحكية المصرية الدارجة، وهي مطلع أغنية مصرية شهيرة غنّتها مجموعةٌ من مطربي مصر: عماد عبد الحليم، أنغام، إيهاب توفيق، منى عبد الغني، غادة رجب، شيرين وجدي، طارق فؤاد، وائل سامي، تقول كلماتها: «أنا م البلدي دي/ بلد أبويا/ وجدّ جدي/ بلد أبويا/ وولادي بعدي/ .../ أنا مصر اللي/ دايماً بتدّي/ بلد المساجد/ بلد الكنايس/ بلد المعابد/ بلدي دي شجرة/ لها جذع واحد/ لُهْ فرع فاكهة/ وفرع وردي...» يقول المؤلف في مقدمته: «أنا مواطن مصري، تم تصنيفي في حزب القَبَط. حزبٌ لم أنتَمِ إليه، بل صُنِّفتُ ضمنَه، فأدركتُ منذ نعومة أظافري أنني مختلفٌ، فأنا قبطي! وأتذكر في طفولتي الابتدائية صديقي المسلم حين علم أنني مسيحيّ، جاء إليَّ وربت على كتفي بحنوٍّ... وجهه يملؤه الحزن كأنه يواسيني!». لشدّ ما تحتاج مكتبةُ مصر لمثل هذا الكتاب، الآن تحديداً، مثلما يحتاجه المواطنُ المصري الذي أربكته حكوماته، فلم يعد يفرّق بين العدو والصديق. بين الذات وبين الآخر. بين حرية اختيار العقيدة، والمواطَنة التي هي حقٌّ للجميع. المؤلفُ شاب مصريّ قبطيٌّ قرر أن يطّرح الصمتَ جانباً، حيثُ «الصمتُ مقصلةُ الضمير»، كما قال محمود درويش، ليعلن على الملأ بعض «المسكوت عنه» من السخافات التي تُمارَس ضد مسيحيي مصر خلال العقود الأخيرة، منذ مراحل طفولتهم، مروراً بصباهم وشبابهم. صغاراتٌ، نعم، لكنها مع التراكم تصنعُ شروخاً في جدار الروح، تنفجر مع الوقت في مشاحنات، بل وإهراق دماء، مثلما حدث في مصر خلال العام الكابي 2010، وبدايات 2011. يضمُّ الكتاب ثلاثةَ عشر فصلاً، يتناول كلٌّ منها حكايةً من حياة المؤلف منذ كان تلميذاً بالصف الثالث الابتدائي وحتى الآن. افتتح الفصول بإحدى رباعيات صلاح جاهين: «أنا شاب.. لكن عمري ولا ألف عام/ وحيد/ ولكن بين ضلوعي زحام/ خايف/ ولكن خوفي مني أنا/ أخرس/ ولكن قلبي مليان كلام/ عجبي!». على نحو مرحٍ خالٍ من المرارة، يحكي المؤلف ذكرياته مع «اختلافه»، واسمه «المكشوف»، على حد تعبيره، منذ كان طفلاً، ثم صبيّاً، ثم شابّاً جامعيّاً، ثم رجلاً ناضجاً، إلى أن ينتهي بمشهد فانتازي يتخيلُ فيه نفسَه أحدَ شهداء مطرانية نجع حمادي، مع «حسن ربيع»، صديقِه المسلم المتسامح، الذي يغدو، مع نهاية الكتاب، الجنديَّ المكلَّف تأمين دار العبادة في عيد الميلاد المجيد، وقد لقي مصرعه مع مَن لقوا، وكيف جمّعتهم السماءُ حين حاول أن يفرّق بينهم بشرٌ غِلاظُ القلوب. ونكتشف في الأخير أنه شخصية من نسج الخيال. حكى المؤلفُ عن عجائب حصص الدين بالمدرسة، وعن زميله المسلم الذي «شَرِق» فأسرع إليه بزمزمية المياه، فرفض صارخاً: «لا أشرب مكان مسيحيين، وكمان بابا وماما قالولي ما تلعبش مع مسيحيين!» يحكي عن فوزه في مسابقة الرسم في الصف الرابع الابتدائي، ثم تُسحب منه الجائزة! إذ كيف يفوز مسيحيٌّ في مسابقة عنوانها «القدس العربيّ»؟ وحكى عن قصة حب لم تكتمل: زعم لحبيبته أنه مسلم، لأنها مسلمة، ثم اكتشف أنها مسيحية تزعم أنها مسلمة حين ظنّت أنه مسلم! يحكي عن خيبات كثيرة تسبب فيها اسمه الصريح «فيليب»، في مجتمع لم يعد يحترم الاختلاف، وحرية الاعتقاد، ولم يعد على رقيّه في سابق عهده، قبل قرن حين كان الدين لله والوطن للجميع، إذ يذكّرنا التاريخ بأن مكرم عبيد قال لسعد زغلول عند تشكيل الوزارة في بداية القرن الماضي: «عدد الأقباط كثير يا باشا!» فكان ردُّ سعد زغلول: «أنا لا أرى مسلمين أو مسيحيين.. فقط أرى مصريين». كتاب جميل لن يتوقف قارئه عن الضحك، فمؤلفه يمتلك خِفّةَ ظِلٍّ لا مثيل لها، مثلما لن يتوقف عن التفكير الجِدِّيّ في تصحيح أوضاع لا تناسبُ شعباً راقياً ينتمي لبلد محترم عريق. الكتاب دعوةٌ مُحبَّة لأن نفتحَ قلوبنا ونتأملَ ما نقولُ ونفعلُ يوميّاً، ربما من دون قصد، ما يؤذي مشاعرَ مواطنين وشركاء مصير في بلد جميل اسمه مصر. يُذكر أن المؤلف يُعِدّ الآن كتاباً عن خفة ظل ثورة مصر، يجمع فيه كل الطرائف الكوميدية التي صنعها الثوّار خلال 18 يوماً، فيما هم يحررون بلادهم.