ما يجري على امتداد العالم العربي من مصر وتونس الى ليبيا مروراً بالبحرين والجزائر والسودان والمغرب والأردن واليمن يبين مأزق الدولة العربية وتناقضاتها وازدواجيتها. فهي من جهة ضارية قمعية مدججة بكل وسائل التسلط والقهر، وهي من جهة أخرى خاوية ضعيفة خائفة. هي من جهة تتربع على جهاز أمني بيروقراطي مالي، تمنح وتمنع، تحمي وتهدد، تقرّب وتبعد، ترفع وتخفّض. وهي من جهة أخرى معزولة محاصرة مذعورة. فهل أكثر دلالة من فرار بن علي ومبارك بعد أن استخدما كل ما يملكانه من قدرة على ارهاب الجماهير؟ وهل أكثر تعبيراً من خطاب القذافي المرتعد في ذروة غطرسته وتهديده لشعبه بالحديد والنار والقتل؟ أحاط عبدالله العروي بهذا الواقع المتناقض للدولة العربية المعاصرة، اذ رأى أنها مهووسة بالسلطة والقوة، غير أن عنفها هو في حقيقة الأمر مؤشر على ضعفها وهشاشتها. فقد كانت الدولة العربية ولا تزال في مقدم دول العالم في الإنفاق العسكري وفي تعداد القوى الأمنية، وهي أزهقت ثلث الناتج الاجمالي العربي بين 1950 و2000 ويقدّر بألف بليون دولار على شراء الأسلحة، وحشدت ملايين العسكريين بذرائع شتى. وثمة زعم بأن العراق كان يمتلك رابع أكبر الجيوش في العالم. ترافق ذلك مع تنامي الدور الاقتصادي للدولة منذ الخمسينات من القرن الماضي في جميع البلدان العربية. وقد بينت الدراسات الارتفاع الهائل للإنفاق الحكومي منذ أواسط القرن الماضي، فضلاً عن ضلوع الدول العربية في النشاط الاقتصادي وبلوغه مستويات قياسية، الأمر الذي كرس بقرطة العالم العربي وتضخم دور الدولة العربية في الحياة الاقتصادية والسياسية والادارية حيث تضاعفت بوتيرة تصاعدية أعداد المؤسسات العامة والموظفين الحكوميين ومعها تزايدت امكانية تعبئة الأنصار والموالين. لكن كيف يفسر أن هذا كله لم يحل دون بقاء الدولة وأفرادها وأجهزتها ومثقفيها على هامش المجتمع، حتى وهي في ذروة تسلطها وبقرطتها وهيمنتها؟ لماذا لم تدخل في النسيج الاجتماعي العربي في ما هي تخترقه وتجتاحه؟ لماذا لم تتركز دعائمها وتأمن على يومها وغدها على رغم كل قوّتها الظاهرية المفرطة؟ آية ذلك كله أن الدولة العربية مفتقدة كل الشرعيات إلا شرعية التسلط والقهر. انها دولة «ضارية» لا دولة قوية، على حد تعبير نزيه الأيوبي، دولة على درجة من التضاد مع مجتمعها بحيث انها لا تستطيع أن تتعامل معه الا بالقسر والاكراه واستخدام القوة السافرة، فيما الدولة القوية تكمل المجتمع ولا تناقضه وتتعامل مع مراكز القوة فيه. ان القوة السافرة لا تنشئ وحدها شرعية ثابتة ومستقرة للدولة. الأمر الذي أدركته الأنظمة العربية متأخرة فيما هي تتداعى تباعاً الآن دافعة ثمن افتقادها الشرعيات التاريخية والوطنية والليبيرالية والطبقية والأخلاقية، تلك المؤسسة للدولة القوية. تاريخياً، كانت الدولة مدخلاً متأخراً في العالم العربي وقد ظهرت في وقت كان أغلب العرب مشغولين إما بالأمة الاسلامية أو بالقومية العربية. وكانت تفتقد الشرعية الشعبية، إن بحكم تناقضها مع طوبى الخلافة الاسلامية، أو بحكم الجماعات القبلية والعشائرية والطائفية التي كانت تعيش في كنفها ولا تنتمي اليها إلا قسرياً مفضلة ادارة شؤونها بنفسها. ولم تعمل الأيديولوجيات المعاصرة في العالم العربي باتجاه الاعتراف بالدولة ومدها بالشرعية المفتقدة. فالأيديولوجيا القومية تعاملت معها باعتبارها كياناً مصطنعاً وتجزئة قسرية بغيضة للأمة العربية الواحدة، والأيديولوجيا الطبقية أعرضت عنها بصفتها عائقاً أمام الأممية البروليتارية فضلاً عن كونها التنظيم السياسي للطبقة السائدة وأداة الطبقة المستغِلة لقمع الشعب المستغَل، والأيديولوجيا الاصولية انشغلت عنها بطوبى وحدة المسلمين والأمة الاسلامية فوق كل الاعتبارات الاخرى، قومية او وطنية او طبقية، والأيديولوجيا الليبيرالية رأت فيها امتداداً للدولة السلطانية التقليدية، دولة القهر والتغلب، كونها لم تقترن في ظهورها بفكرة الحرية وبعقل اجتماعي ديموقراطي، والأيديولوجيا الوطنية لم تر فيها سوى دولة عصائب اقلوية لا دولة العصبة الوطنية. والادهى ان الدولة العربية المعاصرة تفتقد الشرعية الديموقراطية حيث تعاملت مع الشعوب بصفتها رعايا يجب ان تتنازل عن حقوقها من دون مقابل، وأن تضحي من اجل شعارات زائفة مخادعة لا طائل لها فيها، وأن تكون قابلة للتطويع في اي اتجاه من دون محاسبة ومساءلة. وفي ظل تعامل كهذه ساد الفساد الاخلاقي المتمثل في هدر الموارد والطاقات حتى شمل مختلف مناحي الوجود السياسي والاجتماعي ليبلغ حداً قياسياً استنزف معه ثلث الناتج الاجمالي العربي في النصف الاخير من القرن الماضي فيما الفجوة الطبقية في اتساع متزايد وأعداد الفقراء في تصاعد مستمر ناهز المئة مليون جائع. وعلى الصعيد المؤسساتي لم تقم الدولة القانونية التي تقدم العمل المؤسسي والصالح العام، فتآكلت القيم التي تعلي من شأن هذا الصالح، وتحكمت في الوظائف العامة المحسوبيات والعوامل الشخصية والقرابية. فقد كانت الدولة اذاً تقبع في غربة قاتلة عن الناس وكانت في حاجة دائماً الى إثبات شرعية مفتقدة في وقت تواجه فيه موقفاً عدائياً في غير اتجاه. فهل من الغريب والمفاجئ، والحال هذه، ان تنفجر في وجهها كل تلك الانتفاضات الدموية من اقصى العالم العربي الى اقصاه، وأن توضع بكل تناقضاتها وإعضالاتها التاريخية على المحك بما لم تواجهه في تاريخها حتى الآن. * كاتب لبناني.