لن يختلف اثنان على أنّ ما حدث في تونس فاجأ كل العالم. بل وفاجأ التونسيين أنفسهم، فلا أحد توقّع أن تونس على أبواب ثورة سيسجلها التاريخ وتصبح نموذجاً لبقية الدول العربية وأولها مصر. لا أحد كان يتكهن بأن ما يحدث في تونس من تحركات عفوية نتجت من سنوات القهر والخوف والقمع وانعدام الحريات، سينقلب إلى ثورة عظيمة قادها شباب لم يجمعهم أي إطار او منظمات او أحزاب او نقابات أو اتحادات مثقفين أو فنانين. فلا قيادات سياسية ولا ثقافية قادت ما حدث في تونس... ما حدث أن الشارع بكل أطيافه وبخاصة الشبابية استبق الجميع بما في ذلك النخب التي طالما تحدثت عن وجود التغيير من دون السعي إليه. ثورة عفوية هي، أكثر منها ثورة مؤطرة، على رغم أن تونس فيها عدد كبير من منظمات المجتمع المدني والهيئات والنقابات التي تساهم من وقت لآخر في تفعيل الشأن السياسي في البلاد من الاتحاد التونسي للشغل وعمادة المحامين أو جمعية القضاة أو غيرها من الهياكل المجتمعية. وإذا علمنا أن الشباب التونسي في أغلبه له اهتمامات كروية، أي أنه يتابع كرة القدم والرياضة في شكل كبير وهذا طبيعي جداً اذ أولى النظام السابق الرياضة اهتماماً كبيراً كشكل من أشكال التدجين، ندرك حتماً قلّة انخراط التونسي في مؤسسات المجتمع المدني التي، بدورها وفي أغلبها، كانت أبواقاً لسياسات الرئيس المخلوع ونظامه. خرج التونسيون إلى الشوارع ليقولوا لا للظلم، لا للقهر، لا للقمع، لا للصوت الواحد، خرج التونسيون لينادوا بالحريات والديموقراطية والرغبة في المشاركة في بناء بلاد من دون وصاية أو تأطير لحركتهم. تحرك الشارع بشيبه وشبابه، فأرادت الفئة الاخيرة اثبات انها على قدر من الوعي ما يكفي لتقود البلاد للأفضل، وأنه ليس كما صوّرها النظام مجرد فئة شابة تلهث خلف الكرة والمتعة فقط. ثورة «كرامة»... عفوية انتظر كثيرون من المراقبين انخراط مؤسسات المجتمع المدني في ثورة تونس العظيمة، ولكنّ الواقع كان غير ذلك، لأنّ الشعب قالها بشكل مغاير تماماً وأكد أنّه أكبر من المنظمات والنقابات والأحزاب التي ترى في شعب تونس مجرد وسيلة وليس هدفاً في حد ذاته. أضف إلى ذلك أن التونسي عموماً والذي عاش على وقع الحزب الواحد والصوت الواحد والتوجه الواحد عقوداً طويلة، فقد الثقة في غير إرادته وقدرته على التغيير. يقول ياسين وهو طالب مرحلة ثالثة أدب فرنسي: «عندما خرجنا يوم 14 كانون الثاني (يناير) الماضي، لم يدر بخلدي أنني بصدد المساهمة في صناعة ثورة، ولم يخطر لي أنني سأساهم في تغيير ما نعيشه من سنين طويلة، أنا خرجت فقط لأنني أحسست بأن الصبر عندي نفد، وأنني لم أعد قادراً على كظم غيض فاق التصورات نحو سياسة قمعية أثبتت فشلها في تحسين ظروف الناس». صديقته ريم وهي أيضاً طالبة موسيقى تؤكد ما ذهب إليه وتزيد: «أمي شجعتني على الخروج للشارع والصراخ في وجه الظلم، قالت لي أخرجي. إفعلي ما لم نتمكن نحن من فعله، قولي لا بصوت عالٍ. وبالفعل خرجت للشارع وكنّا بالآلاف نصرخ بصوت واحد، لم ننتظر من ينظّم صفوفنا أو يوجهنا، كل شيء تمّ بتلقائية وعفوية كبيرة، وكأننا اتفقنا على ذلك منذ مدة». أستاذ في التعليم العالي، يذهب إلى القول انّ أهمّ ما دفع الناس للخروج عن صمتهم ونزع جبّة الخوف هو أن الفساد وصل إلى حد لم يعد يمكن الصمت إزاءه. ويضيف: «العدل أساس العمران على رأي ابن خلدون، وهو ما افتقدناه في تونس سنوات طويلة، فقد تمكنت فئة قليلة من المتنفذين من إحكام قبضتها على ثروات الشعب وعاثت فيها فساداً، وفي المقابل يرزح الآلاف تحت ضغوط الفقر والبطالة والحرمان، أضف إلى ذلك مستوى الحريات المتدنّي جداً إلى حد أن التونسي لا يمكنه البوح بحقيقة مشاعره تجاه النظام خوفاً من العواقب الوخيمة، كل هذا أفرز انتفاضة جماعية لم تنتظر من يوجهها أو يحدد لها المعالم الأساسية». ويواصل الأستاذ نفسه: «لا يمكن أن نتحدث في بلد مثل تونس عن أحزاب أو منظمات أو مؤسسات مجتمع مدني تؤطر أي تحرك لأن ذلك غير ممكن في بلد فقد أغلب أبنائه الثقة في نخبه، بل فقد الأمل في إمكان المبادرة ممّن بيدهم المبادرة، فكانت الرغبة الجماعية في الانتصار للحق هي الحافز وهي المؤطر». أكدت الأيام الأولى للثورة مدى التضامن والتعاون والتناغم الذي طبع أجواء الثورة، كان الجميع وليس في العاصمة تونس فحسب بل في بقية المدن التونسية، يتحرك على إيقاع واحد وبشعارات متفق عليها، وحتى في الأيام التي تلت كان التوافق على خروج البلاد من بوتقة الفوضى هاجس الجميع، فانتظمت حملات لحماية الأحياء والمكاسب الجماعية من الذين أرادوا أن يضربوا الثورة ويخلقوا البلبلة في صفوف الناس، وكان الشباب يحملون الهراوات ويحرسون المنازل والمحلاّت والمرافق الأساسية في كل مدينة، وفي ما بعد انتظمت حملات لتنظيف الشوارع والمباني، وكان كل ذلك ينتظم في شكل تلقائي ومن دون أي إدارة معلنة أو تنظيم مسبق، فيكفي نشر خبر على «فايسبوك» أو «تويتر» حتى ينتشر، وبشكل مذهل لنجد الشوارع تغص بأبناء تونس كلّ يصنع ما يمكنه من أجل بلاده. يذكر أن التونسيين أقلقتهم كثيراً التسمية التي اعتمدتها وسائل إعلام عربية وأجنبية عدة وهي «ثورة الياسمين»، ويرى التونسيون على اختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم أنها «ثورة كرامة» و «ثورة حرية»، ثمّ إن هذه التسمية سبق أن تمّ إطلاقها على انقلاب الرئيس المخلوع في العام 1987 على الرئيس السابق الحبيب بورقيبة. أطلقها حينها صحافي فرنسي: «انه الانقلاب الناعم وما شهدته في ما بعد هو ثورة الياسمين». وبعيداً من كل التأويلات لم ترق هذه التسمية للتونسيين واعتبروها إساءة لدماء الشهداء، ويفضلون أن تسمّى ب «ثورة الكرامة « لأن الشعب ثار من أجل الكرامة والحرية. - «مصر الجديدة» صناعة مدنية (القاهرة - أمينة خيري) - ... في اليمن الهيئات الأهلية تكتفي برصد الانتهاكات (صنعاء - علي سالم) - أصوات خافتة في لبنان تواجه طائفيّة متجذّرة (بيروت - فيرونيك غزالة) - رحلة عائلية بين صيدا وبيروت (سامر مناع)