إذا استعرضنا طائفة من كتب الآداب السلطانية -أو ما يسمى ب «مرايا الأمراء، ونصائح الملوك Fürstenspigel»- فسوف نكتشف ضعف أو هامشية الشورى في سياق الحديث عن طبيعة الحكم وآلياته ومآلاته، فضلاً عن غلبة الطابع الوعظي/ النصائحي في المواضع القليلة التي ذُكرت فيها مفردات من مثل: المشاورة، الاستشارة، المشورة. ففي حكاية «الأسد والغواص» الرمزية، يعقد المؤلف المجهول فصلاً بعنوان: «مشاورة الصديق لصديقه، وما في ذلك عليه من ضر ونفع»، يراكم في صفحاته المواعظ والحكم المتعلقة بفضل المشورة، كقوله: «إن الصديق مرآة صديقه»، «إذا كنت مستشيراً فتوخَّ ذا الرأي والنصيحة»، «ما استُنبط الصوابُ بمثل المشاورة، ولا حُصِّنت النعمُ بمثل المواساة، ولا اكتُسبت البغضة بمثل الكبر»، «المستشير لا يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً»... إلخ. وكما هو بيِّن، فإنها عبارة عن نصائح عامة تتضمن أقوالاً وأشعاراً ترد ضمن تضاعيف كتب الأدب من دون نسبة على الأغلب. وفي كتابه: «تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك»، يعقد الماوردي (ت 450ه) فصلاً في الباب الثاني -من دون عنوان- يتحدث فيه عن الشورى بشكل أكثر دقة، ويفتتحه بالقول: «ينبغي للملك أن لا يمضي الأمور المستبهَمة بهاجس رأيه حتى يشاور ذوي الأحلام والنهى، ويستطلع برأيه ذوي الأمانة والتُّقى ممن حنكتهم التجارب فارتاضوا بها». ثم يورد بعد ذلك نقولاً حول منافع العمل بالمشورة وفوائده، يبدأها بالحديث النبوي: «ما سعد أحد برأيه، ولا شقي عن مشورة»، وكذلك نصيحة النبي (صلعم) لمعاذ بن جبل: «استشر، فإن المستشير معان، والمستشار مؤتمَن، واحذر الهوى، فإنه قائد الأشقياء». ويمضي الماوردي، الفقيه، في إيراد الحكم والمواعظ التي تحض على استعمال الشورى، ويحدد مؤهلات وشروط «أهل المشورة» بالصلاح، والمحبة، مؤكداً أن الاستسلام إلى رأي المشير هو العدل الخفي «فإذا تقرر له الرأي الذي لا يخالطه فيه ارتياب، ولا تعارضه فيه شبهة، أمضاه ولم يؤاخذهم بعواقب الإكداء ودرك الزلل، فإنما على الناصح الاجتهاد، وليس عليه ضمان النجح». مختتماً فصله بقول أحد الحكماء: «لو كانت الملوك تعرف مقدار حاجتهم إلى ذوي الرأي من الناس مثل الذي يعرف أهل الرأي من حاجتهم إلى الملوك، لم أر عجباً أن تُرى مواكب الملوك على أبواب العلماء، كما تُرى مواكب العلماء على أبواب الملوك». وفي السياق ذاته، خصص المرادي المتوفى سنة 489ه الباب الثالث من كتابه «الإشارة إلى أدب الإمارة»، الذي عنونه «في الاستشارة وصفة المستشار»، للحديث عن الشورى التي «تفيد المستشير عقلاً تزيده إلى عقله، وهدايةً يجمعها مع هدايته، كما يزيد النهر ماءً بما يمده من الأنهار». ثم يوضح -بعد ذلك- بواعث الشورى ودواعيها، فيحصرها في وجوه أربعة: «أحدها: تقصير المستشير عن معرفة التدبير. والثاني: خوفه من الغلط في التقدير، وإن لم يكن من أهل التقصير. والثالث: أن الفَطِن النحرير ربما يستر عليه الحب أو البغضة وجوه الرأي والروية. فهما يعدلان بالفكر عن الإصابة فيحتاج إلى مشورة مَن رأيُه صافٍ من كدر الهوى، مبصر لوجوه الآراء. والرابع: أن المستشار ربما كان في الفعل شريكاً، أو عليه معيناً، فتكون مشورته داعياً إلى استئلافه، وإغراءً له في معونته». في المقابل من ذلك يضع المرادي شروطاً خمسة يتوجب توافرها في شخص المستشار، بعد أن أكد ضرورة خضوع المستشارين للامتحان والاختبار حتى يخلصوا من الأوصاف التي تخل بالنصيحة وتؤدي إلى النقيصة، وهذه الشروط هي: أن يكون عاقلاً فطناً. وأن يكون محباً مصافياً. وأن يكون كاتماً للسر. وأن لا يؤدي النصح إلى ضره، أو إلى نقصان شيء من أمره. وأن لا يكون حاسداً، فإن الحسد يبعث أهل المحبة على البغضة، وأهل الولاية على البعد والفرقة. وينهي بإسداء النصح للمستشارين بضرورة توخي الأمانة، والإنصاف، والتواضع، وعدم الجدال أو المداهنة للوالي، وعدم لوم المخالف «فعلى هذه الأمور قس في الاستشارة، إن شاء الله تعالى». أما الطرطوشي (ت 520ه) في كتابه «سراج الملوك»، فيضع المشاورة في مقدمة «الخصال الفرقانية» التي ورد الشرع بها، والتي من أشد خصائصها أنها تفرق بين الحق والباطل. ويحدد في الباب العاشر، الذي عنونه «في بيان معرفة خصال ورد الشرع بها فيها نظام الملك والدول»، هذه الخصال في ثلاثة: «اللين وترك الفظاظة والمشاورة، وأن لا يستعمل على الأعمال والولايات راغباً فيها ولا طالباً لها. ولما علم الله تعالى ما فيها من انتظام أثر الملة، واستقامة الأمر، نص عليها الله سبحانه ورسوله». أيضاً خصص الطرطوشي الباب السابع والعشرين للحديث عن «المشاورة والنصيحة»، معتبراً أنها مما يعده الحكماء من أساس المملكة، وقواعد السلطنة، وهو المعنى ذاته الذي تكرر من بعد في كتاب «بدائع السلك» لابن الأزرق. ويتابع الطرطوشي التقليد الخاص بتأكيد فوائد المشاورة، ف «من كثرت استشارته حُمدت إمارته»، «ومن أعطي المشورة لم يُمنع الصواب»، معضداً ذلك بحكايا ونقول متعددة المصادر، مذكراً بأن عدم قبول المشورة يعد باباً من أبواب الاستبداد، وسبباً يوجب خلع الخليفة، حيث ينقل عن طاهر بن الحسين الخزاعي وصفه الأمين بأنه كان: «ضيق الأدب، لا يصغي إلى نصيحة، ولا يقبل مشورة، يستبد برأيه، فيرى سوء عاقبته، فلا يردعه ذلك عما يهم به، فقال المأمون: لذلك ما حل محله، أما والله لو ذاق لذاذة النصائح، واختار مشورة الرجال، وملك نفسه عند شهوتها، ما ظفر به». وفي كتابه «الجوهر النفيس في سياسة الرئيس» لابن الحداد (ت 649ه)، لا يتجاوز الباب المخصص للحديث عن الشورى في هذا الكتاب حدود صفحتين ونصف الصفحة! وهو الباب التاسع الذي عنونه ابن الحداد ب «في فضل المشورة والرأي من ذوي الآراء». وقد ابتدأه بذكر الحديث النبوي: «المستشار بالخيار، إن شاء قال وإن شاء سكت، فلينصح». ثم دلل على فوائد الشورى بالإتيان على بعض الوقائع التاريخية، وبعض الأبيات الشعرية. وعلى العكس من ذلك، عقد ابن رضوان المالقي (ت 783ه) في كتابه «الشهب اللامعة في السياسة النافعة»، باباً مطولاً نسبياً، هو الباب السابع، بعنوان «في التدبير والرأي والمشورة والمذاكرة وما يلحق بذلك». وضع فيه شروطاً مضادة، أو أسباباً ثلاثة يجب الاحتراس منها عند اتخاذ المشورة: «أحدها: أن يُكثر الشركاء فيه، فإذا كان كذلك انتشر التدبير وبطل. الثاني: أن يكون الشركاء في التدبير متحاسدين متنافسين فيه، فيدخله الهوى والبغي فيفسد. الثالث: أن يملك التدبير من غلب عن الأمر المدبر دون من باشره وشاهده». وينقل -في معرض حديثه عن آية الشورى (وشاورهم في الأمر)- تأويل الحسن البصري أن الله أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) «بمشاورتهم، وهو غني عنها، ليستن بذلك المؤمنون. فالمشورة واجبة على كل ذي حزم، متعينة على كل ذي عقل». كما يتابع النقل بعد ذلك عن كل من: الإمام علي، وبطليموس، وأرسطوطاليس، وبعض الحكماء، ويكرر الشروط الأربعة الواجب توافرها في شخص المستشار، كما وردت من قبل عند المرادي، مثلما يؤكد ضرورة اختبار المستشارين حتى يخلصوا من الأوصاف التي تخل بالنصيحة، كما تشتمل النقول على أبيات شعرية، وأقوال لابن المقفع، وابن حزم، والزهري. ويوسع ابن رضوان من دائرة النقول لتشمل حكماً مجهولة، ونصائح لملوك الفرس، ونقولاً عن شعراء الجاهلية، وحكماء اليونان... إلخ. وتمثل المشورة في كتاب ابن الأزرق (ت 896ه) «بدائع السلك في طبائع الملك»، الركنَ العاشر ضمن «الأفعال التي تقام بها صورة الملك ووجوده». ويحمل هذا الركن المطول نسبياً عنوان «مشورة ذوي الرأي والتجربة». وقد افتتحه بذكر المقدمات التي سبق وذكرها الطرطوشي في كتابه «سراج الملوك»، وفي مقدمها أن الشورى «مما تعده الحكماء من أساس المملكة، وقواعد السلطنة، ويفتقر إليها الرئيس والمرؤوس». ثم عقب عليها -في سياق نزعته التوفيقية بين الدين والفلسفة/ الحكمة والشريعة- بالقول: «قلت: هو كذلك في الشريعة حرفاً بحرف». وقد دلل على شرعية الشورى بأمرين رئيسين: أحدهما مدح من عمل بها في جميع أموره. قال الله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورىٰ بينهم ومما رزقناهم ينفقون). الثاني: صريح الأمر بها في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر). ويعدد ابن الأزرق عشرة أسباب تكمن في حكمة مشروعية الشورى، وهي: الأمن من ندم الاستبداد بالرأي الظاهر خطؤه، وإحراز الصواب غالباً، وازدياد العقل بها واستحكامه، والفوز بالمدح عند تحقق الصواب، واستعانة التدبير بها عند التقصير عنه، والتجرد بها عن الهوى، وبناء التدبير بها على أرسخ أساس، واستمناح الرحمة والبركة، ودلالة العمل بها على الهداية والسداد، وأخيرا تحقق الصواب بها عند وقوع إشكاله. فالمشاورة -وفق الفقيه ابن العربي- «أصل الدين، وسنة الله في العالمين، وهي حق على عامة الخليقة من الرسول إلى أقل خلق بعده في درجاتهم، وهي اجتماع على أمر، يشير كل واحد برأيه، مأخوذ من الإشارة». وفي السياق ذاته، يرتب ابن الأزرق الشورى في مقامات أربعة هي: المستشير، والمستشار، والمستشار فيه، وفي ما يطالب به المستشير بعد المشورة. مفصلاً الوظائف المنوطة بكل طرف على حدة، مفرقاً فيها بين ما يعم سائر الطبقات، وما يخص السلطان ممن يليه، كما يضع اثني عشر شرطاً للمستشار، يحدد بها وظائفه أثناء الشورى [خمس وظائف]، وما يتوجب عليه بعدها [وظيفتان للمستشار، وخمس للمستشير]. أخيراً، لا نكاد نجد ذكراً لمفردة «الشورى» -فضلاً عن تخصيص فصل للحديث عنها- في كتاب «قوانين الوزارة وسياسة الملك» للماوردي، أو الكتب المتأخرة زمنياً التي تنتمي إلى صنف «مرايا الأمراء والآداب السلطانية»، وفي مقدمها: كتاب «تحفة الترك في ما يجب أن يعمل في الملك» للطرطوسي المتوفى سنة 758ه. وكتاب «المختار من كتاب تدبير الدول» لابن نباتة المصري المتوفى سنة 768ه. وكتاب «الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء» للخيرميتي، الذي كان حياً سنة 843ه. وكتاب «البرهان في فضل السلطان» لابن طوغان المحمدي المتوفى سنة 875ه.