ذهب الرئيس المصري حسني مبارك وبقي نظامه... وهو نظام معقد صمّم على قياس الرئيس بحيث يعينه على تحقيق اهدافه السياسية. ويتوقع قادة التظاهرات في مصر ان تبدأ عملية الاصلاح بإجراء تعديلات دستورية تساعد الشعب على استرداد حقوقه. وتقضي مهمة اللجنة الدستورية برئاسة طارق البشري، بضرورة تعديل المواد التي اضيفت خصيصاً على امتداد ثلاثين سنة، لحماية النظام السابق وتقييد حرية خصومه. ومع ان عدد المواد المطروحة للإلغاء او التعديل، يزيد على العشرة، الا ان المادة 77 هي التي تشغل اللجنة الدستورية. اي المادة التي تنص على ان تكون مدة الرئاسة 6 سنوات، مع السماح بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد اخرى. وهذا ما دعا ايمن نور الى وصف النظام الذي شرّع لانتخاب مبارك في دورة خامسة بنظام «الملكية المنتخبة». لذلك يطالب الاصلاحيون بضرورة تحديد مدة الرئاسة بأربع سنوات، غير قابلة للتجديد اكثر من مرة واحدة. واللافت ان الانتقادات شملت اللجنة الدستورية التي اختارها المجلس الاعلى للقوات المسلحة. خصوصاً ان رئيسها طارق البشري بدأ نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي ثم انقلب الى «اخواني» متشدد. ويتبين من مراجعة سير الاعضاء التسعة انهم متعاطفون مع جماعة «الاخوان المسلمين». وقد احتج «حزب الوفد» على هذا الانتقاء الذي حاولت فيه قيادة الجيش استرضاء «الاخوان» وحجب مشاركة الاحزاب الاخرى. من اجل تطمين المواطنين الى اهدافها، اعلنت حركة «الاخوان المسلمين» امتناعها عن ترشيح ممثل لها الى رئاسة الجمهورية. ويتردد في القاهرة ان هذه الخطوة ترمي الى عدم اثارة مخاوف القوى السياسية الاخرى، وانتظار نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة. ومع ان محمد البرادعي ايد انخراطهم في المسيرة السياسية باعتبارهم لا يشكلون اكثر من عشرين في المئة من أعداد الناخبين... إلا ان تجربة الجزائر اثبتت خطأ هذا الرهان. وكانت ارقام مراكز الاستقصاء قد اعطت الاسلاميين في الانتخابات الجزائرية سنة 1991، ارقاماً ضعيفة لا تدل على قوتهم الحقيقية. وجاءت المفاجأة لتظهر فوزهم بغالبية تتيح لهم تشكيل حكومة من لون واحد. وتدخل الجيش الجزائري لمنعهم من استلام الحكم. وكان من نتيجة هذا التدخل ان انفجر نزاع دموي بين الاسلاميين والجيش ادى الى سقوط نحو نصف مليون قتيل وشل القدرات الاقتصادية لمدة تزيد على السبع سنوات. حكاية «الاخوان المسلمين» في مصر بدأت سنة 1928 مع مؤسسها المرشد الاول للجماعة حسن احمد عبدالرحمن محمد البنا. باشر حسن البنا دعوته مع ستة شبان، ثم اتسعت تلك الدعوة لتصبح حزباً شعبياً قوياً ينافس «حزب الوفد» على الزعامة. ولكن هذه الشعبية لم تسمح له بالدخول الى البرلمان، لأن الدولة كانت تعتقل أنصاره وتحاصر الدائرة الانتخابية التي يترشح عنها (دائرة الدرب الاحمر) في القاهرة. في 12 شباط (فبراير) 1949، اطلق مجهول الرصاص على حسن البنا وهو خارج من مبنى «جمعية الشبان المسلمين». وأفاد قبل موته بأن السيارة التي اطلق منها الرصاص كانت تحمل الرقم 9979. وتبين للمحقق انها سيارة رسمية يملكها الأميرالاي محمود عبدالمجيد، المدير العام للمباحث الجنائية في وزارة الداخلية. بعد الانقلاب العسكري الذي قام به جمال عبدالناصر والضباط الاحرار ضد الملك فاروق (1952)، جرى التعاون مع رجال الثورة. ولما طالب عبدالناصر بحل الاحزاب القائمة، سارع «الاخوان» الى تأييده. واستمر التعاون الى حين تعرض عبدالناصر لمحاولة اغتيال سنة 1954، على يد احد اعضاء «الاخوان». وذكر في حينه ان اجهزة الاستخبارات هي التي افتعلت تلك الحادثة من اجل تقوية شعبية عبدالناصر، واعطائه المبرر لملاحقة «الاخوان» وزجهم في السجون. وقد بلغت الحملة ضدهم ذروتها بإعدام بعض المفكرين الاسلاميين، ابرزهم سيد قطب وعبدالقادر عودة. وبسبب التعذيب في المعتقلات، خرج هؤلاء ليطالبوا بإسقاط نظام الحكم بكل الوسائل الممكنة، بما فيها العنف والاغتيال والارهاب. ثم جاءت هزيمة 1967 لتجدد نشاطهم، وتحيي دعوتهم بأن الانتصار على اسرائيل لا يتم إلا من خلالهم. وقد عززت هذه الفكرة تشكيل منظمات مشابهة مثل: الجهاد والتكفير والهجرة والشرقيين والناجين من النار... الخ. عندما تولى انور السادات الحكم سنة 1970، تخيل ان الناصريين واليساريين هم الذين يعرقلون تنفيذ سياسته. وفي حديث مع مجلة «نيويوركر» نشر في كانون الاول (ديسمبر) 1994، كشف حسني مبارك عن واقعة مذهلة خلاصتها ان انور السادات ساهم في تأسيس «الجماعة الاسلامية» التي ترأسها الشيخ عمر عبدالرحمن. أي الجماعة التي اشرفت على تدبير عملية اغتياله بواسطة خالد الاسلامبولي. وقد اطلقت ايران اسمه على اكبر شارع في طهران، تكريماً للعمل الذي قام به يوم اغتال بطل «كامب ديفيد»! الملاحظ حالياً ان الجيش المصري رفع القيود عن الاسلاميين الذين تعرضوا للمطاردة منذ عهد جمال عبدالناصر. وقد نجحوا في انتخابات 2005 عندما فازوا ب 88 نائباً، ولكنهم قاطعوا الانتخابات الاخيرة لأن القادة الجدد آثروا الانخراط في النشاطات الاجتماعية والابتعاد من الامور السياسية. ولكنهم فوجئوا بزخم تظاهرة المليون، الأمر الذي يفسر ترددهم في المشاركة خلال اليومين الاولين. ولكنهم استلهموا الانتفاضة التونسية وقرروا النزول الى الشارع في القاهرة والاسكندرية، وإنما بطريقة غير مكشوفة. يدعي المجلس الاعلى للقوات المسلحة انه في صدد الإعداد لنقل سلطته الى حكومة مدنية تلتزم المبادئ الديموقراطية. وهو يتعهد الرجوع الى الثكنات بعد انتهاء الفترة الانتقالية المحددة بستة اشهر يصار بعدها الى إجراء انتخابات عامة ورئاسية. ومن المتوقع ان تلغى حال الطوارئ وتحل المؤسسات التمثيلية محل الجيش. ويتخوف «الاخوان المسلمون» من نشوء ظروف امنية داخلية تفرض وصول عمر سليمان الى سدة الحكم. ومع ان مدير الاستخبارات السابق (74 سنة)، هادن «الاخوان» في بعض مراحل عهد مبارك، الا انهم لا يغفرون له الموقف الذي اتخذه تجاه ايمن الظواهري، نائب اسامة بن لادن. ففي سنة 2002 شنت القوات الاميركية غارة على موقع نمي اليها ان الظواهري لجأ اليه. ولما فشلت في تحديد هوية الجثة طلبت من القاهرة ارسال عينة من الحمّض النووي (دي ان ايه)، من شقيق الظواهري المسجون في مصر. وأُشيع في حينه ان عمر سليمان، ابلغ الاميركيين بأنه سيقطع ذراع الشقيق ويرسلها اليهم للتأكد من هوية شقيقه المقتول. وقد انكر سليمان هذه الواقعة، وقال ان خصومه السياسيين هم الذين يرددون هذه الترهات والمزاعم! بقي السؤال المحير الذي تطلقه الدول العربية حول الدور المريب الذي يلعبه الرئيس باراك اوباما بالنسبة الى تأجيج الشارع العربي، وتشجيع المتظاهرين على اسقاط الانظمة مثلما حدث في تونس ومصر؟ اظهرت برقيات حصل عليها موقع «ويكيليكس» ونشرتها صحيفة «افتنبوستن» النروجية، ان واشنطن دفعت ملايين الدولارات لمنظمات مصرية، الامر الذي اثار دهشة الرئيس حسني مبارك. وجاء في البرقية الاولى ان السفارة الاميركية في القاهرة خصصت مبلغ 150 مليون دولاراً لنشر الديموقراطية. وفي برقيات ديبلوماسية اخرى جاء ما يثبت ان الولاياتالمتحدة ساهمت في شكل مباشر في تشجيع القوى المحلية المعارضة للرئيس مبارك. والمستغرب حقاً ان ادارة اوباما لا تنفي هذا الاتهام ولكنها تبرره من موقع الدفاع عن مصر لا عن مبارك. وقال احد كبار مستشاري البيت الابيض، ان اوباما لن يؤيد رئيس دولة يتمسك بكرسيه خلافاً لارادة شعبه. علماً ان اوباما يعتبر مصر حجر الزاوية في الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط، ومحظور عليها ان تخسرها لمصلحة الراديكاليين و «الإخوان المسلمين». ونقل عن اوباما قوله: «اميركا بقيادتي لن تؤيد رئيس دولة يزوّر الانتخابات، ويستعد لتوريث نجله بعد ثلاثين سنة في الحكم. ان مسؤوليتي الادبية تحتم عليّ ان اقول له: يا صديقي، انتهى مسارك... والآن انصرف! الى جانب التفسير الايديولوجي، فإن اوباما يعرف ان الثورات الديموقراطية في العالم العربي يصعب عليها ان تكون مؤيدة لسياسة بلاده. ولكنه يسعى لئلا تكون مناهضة لسياسته. وعليه يرى ان من المفيد لبلاده بلورة النظام الجديد في مصر بحيث يكون قادراً على مواكبة التغيير. ومثل هذا الموقف الغامض يقود الى استنتاجين: اما ان اوباما يدفع لاسرائيل ثمن التمديد لولاية ثانية من طريق ارباك العرب... وإما انه يغري طهران لاستغلال الفراغ الدولي والإقدام على مغامرة متهورة تستثمرها اسرائيل لتسديد الضربة المؤجلة. بعض زعماء الدول العربية رفض منطق الرئيس اوباما، لأنه لم يكن عادلاً وموضوعياً في رسم معاييره السياسية. والدليل على ذلك ان الانتفاضات الفلسطينية الشعبية في الضفة الغربية وغزة، قوبلت بالصمت يوم كانت اسرائيل تواجهها بالقنابل المحرقة. وقد استند الرئيس كارتر الى هذا المنطق عندما انتصر للمتظاهرين في ايران، وجاءت النتيجة مخالفة لكل توقعاته، لأن سقوط الشاه صديق اميركا اوجد نظام الملالي مكانه. أي النظام الذي يطالب بطرد الولاياتالمتحدة والنفوذ الغربي من كل منطقة الشرق الاوسط. وعندما اتصل العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز بالرئيس اوباما مطالباً اياه بعدم اهانة الرئيس مبارك، انما كان يطالبه ايضاً بعدم التدخل في شؤون مصر الداخلية، خصوصاً اذا كان هذا التدخل سيؤدي الى عكس النتيجة المتوخاة. ومثل هذا النصح ينطبق على حالات اخرى تحدث في ليبيا واليمن والبحرين، خصوصاً ان الحكومة البريطانية قد ايدت تدخل واشنطن، تماماً مثلماً ايدتها حكومة العمال في حرب العراق. والمؤسف ان التودد المبكر للأنظمة البديلة في بعض الدول العربية، لن يفتح للولايات المتحدة وبريطانيا اذرع الاستقبال والاحتضان، بقدر ما يفتح الفرص لايران بأن تطرد اعداءها من كل المنطقة! * كاتب وصحافي لبناني