إن كان الجمهور معتاداً على مشاهدة مسلسلات تلفزيونية أو حتّى سماع مسلسلات إذاعية، فمن المؤكّد أنّه غير معتاد على مشاهدة مسلسلات مسرحية، فهذا النوع من الأعمال يعتبر خارجاً عن الإطار الذي يحيط بالمسرح عادة. هشام جابر هو الذي قام، كتابةً وإخراجاً، بهذا العمل الخارج عن المألوف في «عرض غير مخصص للجمهور العريض» وقد امتد على ثلاث حلقات متتالية في ثلاثة أيام متتالية. هذه المسرحية التي كان جابر قدّمها عام 2008 ثم عام 2009، أعاد تقديمها هذه السنة أيضاً ولكن من دون أن يشارك هو في التمثيل. العرض هو في الواقع تجسيد لبرامج تلفزيون الواقع حيث نشاهد على المسرح ممثلاً (روبيرتو قبرصلي) وممثلة (رانيا الرافعي) يتنافسان أمام مخرج (وسام دالاتي) لكسب أصوات الجمهور في اختيار الأفضل بينهما. هذه المحاكاة لنمط او أسلوب تلفزيون الواقع ذهب فيها جابر حتى النهاية، فبدت المسرحية نسخة تلفزيونية متقنة حتّى في أسلوب التصويت الذي يجبر مَن يرغب في التعبير عن رأيه بدفع ثمن صوته، خلافاً لما يحدث عادة في الانتخابات السياسية، حيث يتلقى المقترعون ثمناً لأصواتهم! هذه الطريقة الذكية لكسب المال في صيغة فنية لم تصدم الجمهور ولم تزعجه، بل على العكس كان متحمّساً ومتفاعلاً، فلم يتردد المشاهدون في كتابة أسمائهم على الأوراق النقدية من فئة الألف ليرة كي يصوّتوا من خلالها ل «المشترك المفضّل» أو للموضوع المفضّل. أدرك هشام جابر من خلال عمله في أحد برامج تلفزيون الواقع كيف يتم العمل في المطبخ التلفزيوني وكيف تتحضّر الأمور في الكواليس. وأضاف إلى خبرته هذه تجاربَه في التمثيل والإخراج والكتابة، فقدّم صيغة تأخذ في الاعتبار دور الجمهور بصفته أحد أبرز الشخصيات في العروض المسرحية مطبّقاً ما يقوله سعد الله ونّوس: «المسرح حدث اجتماعي لا يكتمل إلاّ بوجود الجمهور». ويمكن القول فعلاً إنّ هذا العرض شكّل حدثاً اجتماعياً بحقّ، فخلق صلة وثيقة بين الجمهور والممثلين وبين الممثلين وخشبة المسرح وبين الخشبة والجمهور. أمّا المخرج، فكان على علاقة وثيقة بكل عناصر العرض، بدءاً بالنص والممثلين وصولاً إلى الديكور والإضاءة والفيديو والملابس والكاميرات، وحتّى الجمهور. وعلى خلاف تلفزيون الواقع، الذي يضع المشتركين في إطار اصطناعي يخلقه بنفسه، فيكونون مسجونين في بيوت مغلقة تتراوح مساحتها بين كبيرة وصغيرة، استطاع هشام جابر أن ينقل الواقع الحقيقي إلى المسرح من خلال مواضيع دقيقة وحساسة اختارها كي يتبنى كل ممثل وجهة نظرٍ معينة فيصوّت الجمهور للرأي الذي يعكس معتقداته. من موضوع الاغتصاب إلى الإجهاض إلى مسألة السياسات الأميركية والسياسات الإسلامية في المنطقة، تنقّلت الأفكار الكثيرة في العرض بلهجة جدية حيناً وساخرة أحياناً، بصيغة قريبة من اللغة التلفزيونية المعلّبة، فاستطاع المخرج أن يطرح قضايا لا يتم الحديث عنها بصراحة كل يوم، معالِجاً الرأي والرأي الآخر. من خلال هذه المسرحية يمكن أن نطمئن إلى أنّ المسرح ما زال يشكّل نقطة تنطلق منها شرارات نحو الثقافة والتطور والسعي لبناء مجتمع أفضل، أو على الأقل للمساعدة في الإضاءة على السوس الذي ينخر أساساته بهدف حمايته من أن يتهدّم. وإن كان المسرح وسيلة للترفيه، فهو أيضاً في الوقت نفسه وسيلة للتبادل الثقافي والتعبير عن الآراء، كشف الذات واكتشاف الآخر... فإن كان وطننا وعالما العربي ما زال ينبض بالشباب الطموح والجريء والمتجدد، فمن الطبيعي أن يُكتب للمسرح فصول جديدة تزيد من عمره وتمنع ستارته من أن تُغلَق.