تمكن الإشارة، بداية، إلى أن التنمية في الإسلام، ك «عملية» ديناميكية متتابعة تستهدف القضاء على التخلف الاجتماعي والاقتصادي، وصولاً إلى تقدم المجتمع الإسلامي، إنما تعتمد على بعدين أساسيين: البعد الاجتماعي، وهو البعد المتمثل في التصور الإسلامي للمسألة الاجتماعية، تلك التي تتقاطع عندها دوائر ثلاث، الإنسان والمجتمع، العمل والإنفاق، الحلال والحرام.. أما البعد الثاني، فهو البعد الاقتصادي، أي ذلك البعد المتمثل في التصور الإسلامي للمسألة الاقتصادية، تلك التي تتقاطع عندها أيضاً، دوائر ثلاث: الموارد والإنتاج، الحاجة والإشباع، التوزيع والتوازن. ومن المنطقي، والحال هذه، أن نبدأ ب «محاولة معرفة» التصور الإسلامي للمسألة الاجتماعية، أو بالأحرى «البعد الاجتماعي للتنمية»، وهو البعد الذي يقوم على أساس إرساء الدوائر الثلاث للمسألة الاجتماعية على ثلاث قواعد، تنبع من نظرة الإسلام العامة إلى الإنسان والمجتمع والكون. هذه القواعد الثلاث هي: قاعدة تعمير الأرض، وقاعدة قيمة العمل، وقاعدة الثواب والعقاب. أما عن القاعدة الأولى، قاعدة تعمير الأرض، فهي القاعدة التي يرتكز إليها الهدف من التنمية، وما إذا كان يقتصر على مجرد تحقيق إشباع الحاجات المادية والمعنوية للإنسان والمجتمع، أم أن ذلك مرحلة لهدف أسمى وهو تعمير الأرض. يشير إلى ذلك، ويؤكده، أن لفظ «العمارة» (أو «التعمير») يحمل في حقيقته مضمون التنمية والهدف منها، وذلك كما في قوله سبحانه: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» (هود: 61).. في هذه الآية الكريمة، طلب للعمارة في قوله تعالى: «وَاسْتَعْمَرَكُمْ» وهو طلب مطلق من الله عز وجل، ومن ثم يكون على سبيل «الوجوب». بيد أن الملاحظة التي نود أن نشير، في هذا المجال، أن لفظ «العمارة»، أشمل وأعم من لفظ «التنمية»، من حيث إن «العمارة» تشمل «التنمية»، أو بالأحرى: من حيث إن تعمير الأرض هي القاعدة المجتمعية التي ينبني عليها الهدف من عملية التنمية. وهي بهذا لا يمكن فصلها عن مضمون استخلاف الله سبحانه وتعالى الإنسان في الأرض، وذلك كما قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 30). بناءً على ذلك، فإن التنمية، كعملية هدفها تعمير الأرض، إنما تلتقي مع القصد من أن الله عز وجل قد سخر لهذا الخليفة (الإنسان)، ما في السموات والأرض ليستفيد منها وينعم بخيراتها ويسبح بحمده، كما في قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الجاثية: 13).. ومن ثم يتمكن «الإنسان / الخليفة»، وعبر هذا التسخير، من تحقيق القصد من الاستخلاف وأداء مهمته في تعمير الأرض. وأما القاعدة الثانية، قاعدة قيمة العمل، فهي القاعدة التي تتكامل مع قاعدة «تعمير الأرض»، فإذا كان الإسلام اعتبر أن تعمير الأرض، بوصفه هدفاً لعملية التنمية التي يقوم بها الإنسان، هو أساس خلقه ووجوده، بل ومناط تكليفه، فإن هذا لا يعني سوى أن الله لم يخلق الإنسان في هذه الدنيا عبثاً، أو لمجرد أن يأكل ويشرب، وإنما خلقه لرسالة يؤديها، وهي أن يكون مُستَخلفاً من الله على أرضه: يدرس ويعمل، وينتج ويعمر، عابداً الله شاكراً فضله، ليقابله في نهاية المطاف بعمله وكدحه، وذلك كما في قوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ» (الانشقاق:6).. بل لقد جعل الإسلام صدق الكدح أو بطلانه هو سبيل سعادة المرء أو شقائه في الدنيا والآخرة، بقوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً * يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً» (الإسراء: 70 - 72). هذا، وإن كان الإسلام يؤكد حرص الإسلام على «العمل»، فإنه في الوقت ذاته يشير إلى القيمة التي أعطاه إياها، إذ إن الإسلام قد ارتفع بالعمل إلى مرتبة «العبادة»، فهو لم يكتف بالحث على العمل، كما في قوله سبحانه وتعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (التوبة: 105).. بل، اعتبر أن العمل في ذاته عبادة، وأن الفرد قريب من الله ومُثاب على عمله الصالح في الدنيا والآخرة، بقوله سبحانه: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (الكهف: 7).. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً» (الكهف: 107- 108).. وواضح من هذه الآية الكريمة مدى الربط بين أجر الآخرة وعمل الدنيا، بل وبين الإيمان والعمل الصالح. يعني هذا، في ما يعنيه، أن الإسلام لا يفرق بين ما هو دنيوي وما هو أخروي، من حيث إن كل نشاط دنيوي يباشره الإنسان، هو في نظر الإسلام عمل أخروي. وبالتالي، وفي إطار التكامل بين قاعدة «تعمير الأرض» وقاعدة «قيمة العمل»، يمكن فهم مضمون العبادة، في قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون» (الذاريات: 56)، بأنها العمل الصالح. وهذا يشير إلى أن الإيمان في الإسلام ليس إيماناً مجرداً، ولكنه إيمان محدد بالعبادة مرتبط بالعمل الصالح. ولنا أن نتأمل كيف أن الإسلام سوّى بين المجاهدين في سبيل الله وبين الساعين في سبيل الرزق، وذلك كما في قوله تعالى: «... عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (المزمل: 20). وأما القاعدة الثالثة، قاعدة الثواب والعقاب، فهي القاعدة التي يرتكز إليها وجوب إتقان العمل وتحسين الإنتاج كماً وكيفاً، ذلك لأن هذا الإتقان يعتبره الإسلام أمانة ومسؤولية وقربة، كما في قوله سبحانه: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (النحل: 93).. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» (الكهف: 30).. وقول الرسول (عليه الصلاة والسلام): «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (أخرجه البيهقي). والإتقان في اللغة يعني الإحكام، أي حُسن الأداء والسيطرة على الشيء. وقد وردت مادة الإتقان في قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» (النمل: 88)، ولهذا، فإن الإتقان - أي الإجادة والإحكام - مطلوب، بل واجب في كل شيء يباشره الإنسان، ولا يقتصر على مَواطن معينة فقط. في هذا الإطار، فإن وجوب إتقان العمل، من حيث إنه يرتكز على قاعدة الثواب والعقاب، إنما يأتي في إطار دعوة الإسلام إلى مراقبة الله والخوف منه في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا. فالعمل الصالح، يرفعه الله إليه، كما في قوله سبحانه: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ» (فاطر: 10).. بل إن الله عز وجل يحذر من مخالفة ذلك، لأن المُخالِف لن يفلت من مراقبة الله وعقابه، بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (الكهف: 110). ولأن العمل هو العنصر الفعال في طرق الكسب التي أباحها الإسلام، وهو الدعامة الأساسية للتنمية، كعملية تستهدف تعمير الأرض، فقد أوضح الإسلام أنه بمقدار عمل المسلم واتساع دائرة نشاطه، يكون نفعه ويكون جزاؤه، يقول سبحانه: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97).. ويقول تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه» (الزلزلة: 6 - 8). هذه الآية الكريمة تشير بجلاء إلى قاعدة الثواب والعقاب، التي يُنظم الإسلام من خلالها النشاطات الإنسانية كافة، بل إن الإسلام، وبناءً على هذا التوضيح الاختياري بين عمل الخير وعمل الشر، يأمر بممارسة النشاطات النافعة ويصفها بأنها حلال، وينهى عن تلك التي توصف بأنها حرام. وهو ما يعني أن الإسلام ينظر إلى العمل الصالح، النافع، كواجب لا يكتمل الواجب الديني إلا به. وهكذا، يبدو التكامل الرائع في نظرة الإسلام إلى «البعد الاجتماعي»، للتنمية، وذلك من خلال التكامل بين القواعد الثلاث: قاعدة تعمير الأرض، وقاعدة قيمة العمل، وقاعدة الثواب والعقاب.. هذه القواعد التي ترتكز عليها في الإسلام الدوائر الثلاث للمسألة الاجتماعية: الإنسان والمجتمع، العمل والإنفاق، والحلال والحرام.