الدنيا زهرة ذابلة، وشجرة يابسة، وظل زائل، وحلم نائم، كل شيء فيها يذكر بالرحيل؛ غروب الشمس، أفول القمر، تلفان الأشياء يذكرك بالنهاية، فالأيام مراحل وستصل الرواحل: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ). الدنيا ستمر؛ وإياك أن تغرك فتضرك؛ فإن أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) تأمل بعين معتبرة: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ)، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ). حاول أن تحبس نفسك عن المعاصي قبل أن تُحبس أنفاسك؛ فالعمر لحظات: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، أليس من الحماقة أن يضحي الإنسان بجنة عرضها السموات والأرض من أجل لذة عابرة ومتعة عارضة. هذا الكلام عن الدنيا بأسرها؛ لكن أنت كم ستعيش فيها؟ لذا لا تغضب من أجلها ولا تتكبر بسببها، فلا تعلق قلبك بزخرفها فهي إلى حطام: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً)؛ إذا استشعرت أنها إلى زوال ستخف وطأة المصائب على قلبك، الحياة أقصر من أن تقضيها في التوافه، طريقة نظرتك للدنيا يعكس عملك فيها؛ يعطيك القناعة والرضا بما قسمه الله لك، يجعلك تبادر بكتابة الوصية حتى تخرج من الدنيا سالماً من التبعات، ويجعلك تشمر وتنافس في سوق الطاعة والقربات، يبعد عنك التسويف والتكاسل عن العبادة وتأخير التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، أنت مغادر؛ فاجعل أجرك لا ينقطع في قبرك بالدعوة إلى الله، والإنفاق في سبيله، وحسن تربية الأولاد، اترك أثراً طيباً وذكرى حسنة في نفوس الناس: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) حتى تحظى بأطيب وأهنأ الدعوات، اجعل الأرض تبكي على فراقك، ولا تكن كمن قال الله فيهم: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)، كف أذاك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ)، والعجيب أن هناك من يستمتع بأخذ حقوق الناس وظلمهم قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). حجم الدنيا: الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بهيمة ميتة ملقاة على الأرض قال (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، لا تعطِ الدنيا أكبر من حجمها؛ زر القبور، والمستشفيات، والسجون، بل زر البيوت القديمة المهجورة؛ لتعرف ما هي الدنيا التي تصارع الناس من أجلها، نعيم الدنيا مشوب بمنغصات، وإذا تقدم العمر كلت الجوارح: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ). الطاعة حياة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، لتكن حياتك كلها في سبيل الله: (قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أنت مسؤول عن كل عمرك: (عن عمره فيما أفناه)، هل تصورت ذلك؟ هل أنت مستعد للقيا الله تعالى؟ (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، الحياة الدائمة الكاملة في الآخرة: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). الله سبحانه أمر بإعمار الأرض، والإنسان مأجور ومثاب على ذلك: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، والإنتاج والعمل مأمور به حتى النهاية: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)، وأمر أن نتفوق ونتقن جميع التخصصات: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) والإتقان في قوله: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). استمتع في حياتك بكل طيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)، وقال: (حبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب)، قال الله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، وقال: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)، (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)، (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ)، وكل ما يصيب المؤمن في دنياه خير؛ فهو بين شكر وصبر: (عَجَباً لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ)، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا). اعمل الصالحات لكي تهنأ بحياتك: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، فقط زينها مع الله وسيصلح أمرك، (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)، ارفع أكف الضراعة والفاقة بقولك: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، رزقنا الله وإياكم طول العمر، وحسن العيش، وقوة الجاه، واطمئنان القلب، وسعة الرزق، وراحة الضمير، والأمن في الدنيا والآخرة. سخر النعم والمباحات التي حباك الله بها لنيل رضاه وجنته: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) اجعلها ترتقي بك في أعالي الجنان. ليكن لك لقاء مع ربك كل ليلة لتأنس وتسعد: (ينزل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)، واجعل أعز أوقاتك لكتابه: (يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، فوض أمرك إليه سبحانه: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)، (مَنْ قالَ فِي كُلّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبحُ، وَحِينَ يُمْسِي: [حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ] سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللَّهُ تَعالى ما أهمَّهُ مِنْ أمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ). دعني أخبرك بخير من الدنيا وما فيها: (رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)، (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)، (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)، كم تساوي الدنيا بكل قاراتها؟! (وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)، يا سلعة الرحمن لست رخيصة؛ بل أنت غالية على الكسلان. أسس علاقة تنفعك في الآخرة: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)، تخير الصديق المعين على الخير: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)، (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). الله الله بالثبات حتى الممات: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، اسأل الله دوماً أن يميتك على الإيمان: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً)، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا). ختاماً: أسأل الله أن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأسأله أن يدخلنا الجنة بغير حساب، ولا سابقة عذاب. (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً). سعود بن محمد البديع مغرب يوم الجمعة الساعة السابعة 6/5/1438