في إطار البروز المتزايد لمطلب العدالة الاجتماعية في سياق الثورة المصرية، وعلى الصعيد الاقليمي في سياق ثورات تونس وليبيا واليمن وسورية، وعلى الصعيد العالمي في اعقاب الازمة المالية والاقتصادية العالمية الاخيرة، سعى ابراهيم العيسوي في «العدالة الاجتماعية والنماذج التنموية» (المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات- 2014) الى بيان الاسباب التي دعت الى تصاعد المطالبة بالعدالة الاجتماعية، فعمل على تدقيق مفهومها وعلاقته بعدد من المفاهيم ذات الصلة مثل العدالة الاقتصادية والمساواة وتكافؤ الفرص والحرية والفقر، رابطاً بين العدالة وبين التنمية، مقترحاً تعريف العدالة الاجتماعية بانتفاء الظلم والاستغلال والحرمان من الثروة او السلطة او من كليهما، وبغياب الفقر والاقصاء الاجتماعي وانعدام الفروق غير المقبولة بين الافراد، وبتمتع الجميع بفرص متكافئة وحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية متساوية. ويتضح من التعريف الذي اقترحه المؤلف، ان مفهوم العدالة الاجتماعية واسع ومركب ومتعدد الابعاد، اذ هي فكرة فلسفية، مثلما هي فكرة دينية وقيمة اجتماعية ومبدأ اخلاقي. كما ان نطاقها لا ينحصر في الزمن الحاضر، بل هو منبسط يشمل الحاضر والمستقبل ويتأثر بما يجري في العالم الواسع المحيط. رأى المؤلف ان تحسناً ملحوظاً قد طرأ على الطبقات الشعبية بين الحرب العالمية الثانية واوائل السبعينات من القرن الماضي. لكن تراجع النمو الاقتصادي في العالم الاول وتعرضه للركود ولأزمات اقتصادية متكررة، ومع انتشار الفساد وغياب الديموقرطية في العالمين الثاني والثالث، تراجع كثير من الدول عن السياسات المحابية للطبقات الشعبية حيث خصخص القطاع العام وقلّص الانفاق الاجتماعي. وبناء على ذلك انتقل العالم منذ سبعينات القرن العشرين الى حقبة جديدة تتميز بدرجة عالية من الظلم الاجتماعي، وتنذر باحتدام الصراع الطبقي، ما ادى الى تصاعد النشاط الاحتجاجي المطالب بالعدالة الاجتماعية في مناطق كثيرة من العالم، ومن بينها عدد من الاقطار العربية. ذهب المؤلف الى ان تحسين مستوى العدالة الاجتماعية في الرأسمالية هدف صعب المنال، اذ ان ثمة تناقضاً جوهرياً بين خصائص المجتمع العادل وخصائص النظام الرأسمالي الذي يحصر ملكية وسائل الانتاج في فئة قليلة من السكان. الامر الذي يضع المجتمعات الرأسمالية امام الخيار الكبير بين نظام يرهن اثراء القلة بافقار الكثرة، ونظام اشتراكي يفتح الآفاق امام تحقيق العدالة الاجتماعية بالتحرر من الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. ومن هنا لا مبرر لإرجاء مكافحة الفقر وخفض اللامساواة الى حين الوصول الى مرحلة متقدمة من النمو الاقتصادي، فهذا التأجيل لن يؤدي الا الى تفاقم الفقر وانعكاسه سلباً على التنمية، فالعدالة الاجتماعية واستدامة التنمية وجهان لعملة واحدة. اما نموذج التنمية الذي يفي بهدفي العدالة والاستدامة فيقوم اولاً على استقلالية التنمية وبناء القدرات الانتاجية للصناعات الوطنية، وثانياً على اضطلاع الدولة بقيادة التنمية من خلال تخطيط قومي شامل، وثالثاً على الديموقراطية التشاركية من خلال مشاركة المواطنين في ادارة ومراقبة اداء المرافق العامة، ورابعاً باعادة توزيع الدخل والثروة من خلال نظم الضرائب والتحويلات الاجتماعية. ان التنمية التي تقوم على هذه الركائز هي ما يطلق عليها التنمية المستقلة، وانطلاقاً من هذا النموذج يقدم المؤلف قائمة بالاجراءات اللازمة لتحقيق مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية في الحالة المصرية، مثل اعادة توزيع الدخل وكفالة الحريات النقابية وحماية حقوق النساء في العمل، والعناية بالمهمشين ومكافحة الفساد والاحتكار. في رأي المؤلف ان نموذج الليبرالية الاقتصادية الذي جرّب في مصر قد فشل وان ما يطرح من نماذج اخرى كالنموذج التضامني او الاسلامي او التركي لا يقدم نموذجاً افضل من نموذج الاقتصاد الرأسمالي المجرب، وعليه لا بد من قراءة مجريات ثورة يناير 2011 في ضوء نموذج التنمية المستقلة. فقد كان من العوامل التي أدت الى اندلاع ثورة يناير 2011 في مصر ما اتبعه نظام مبارك من سياسات قهر وقمع وتقييد حريات وما الى ذلك من مظاهر الاستبداد السياسي، وما قام من سياسات اقتصادية ادت الى زيادة الفقر واللامساواة والشعور بالظلم الاجتماعي وامتهان الكرامة الانسانية. وبعد ثورة يناير ومع احتدام الجدل في شأن اسلوب مواجهة التدهور الاقتصادي، يبيّن الكتاب ان المأزق المزمن للتنمية مرشح لمزيد من التعقيد والتفاقم بسبب التعامل معه بنهج تقليدي لا يختلف عن نهج النظام السابق. ان غياب الرؤية التنموية الجديدة، واستمرار العمل وفق اقتصاد السوق الحرة المفتوح، ادى الى تحول الوضع الاقتصادي بعد الثورة من سيء الى اسوأ. فثمة اجراءات كان لا بد من تبنيها للخروج من المأزق الاقتصادي الطارئ بعد الثورة، منها زيادة الانفاق على الاجور ورفع الانفاق الاجتماعي جنباً الى جنب مع الاستثمار الانتاجي، ومنها مواجهة عجز الموازنة وتزايد الدين العام وزيادة الايرادات والاقتصاد في الانفاق. باستطلاع آفاق تحقيق العدالة بعد ثورة يناير كشف تحليل الفترة الانتقالية الاولى عن عدد من الانجازات، منها سقوط مبارك وبعض اعوانه واختفاء برلمانه المزور، وزيادة اجور بعض فئات العمال والموظفين، ومشاركة المصريين في اول انتخابات برلمانية تتسم بالنزاهة والحرية. في المقابل كانت هناك اخفاقات كثيرة ايضاً، منها استطالة امد المرحلة الانتقالية واتسامها بقدر من التوتر والاحتقان، ومنها العجز عن شق مسار سلس لتسليم الحكم الى سلطات مدنية منتخبة، وسعي الغالبية البرلمانية الاسلامية الى الاستئثار بالنسبة الكبرى من اعضاء اللجنة التأسيسية، وعدم استجابة المجلس العسكري لمطلب تطهير اجهزة الدولة من اعوان النظام السابق، خصوصاً اجهزة الامن والاعلام والقضاء. ومن الاخفاقات احتدام المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وعدم الشروع في احداث تغيرات اساسية في السياسات الموروثة، وتحول المجلس العسكري الى وصي له رؤيته الخاصة التي يسعى الى فرضها في شأن التغيير، وهي رؤية محافظة بحكم ان هذا المجلس كان ركناً اساسياً من اركان نظام مبارك. وأدى بروز القوى الاسلامية الى تعقيد اضافي في المشهد السياسي الجديد مع توجس قبطي شديد، فقد تمكنت هذه القوى من الفوز ب 72 في المئة من مقاعد مجلس الشعب في اول انتخابات بعد الثورة، ودخلت في معارك متكررة مع القوى الليبرالية واليسارية والقضاء والاعلام، وتبنت صيغة اقتصاد السوق المفتوحة وعدم المساس بتوزيع الثروة. وجاءت المرحلة الانتقالية الثانية مع تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية في 30 حزيران 2012 محملة بالمشاكل الموروثة من عهد مبارك، كما حفلت بصعوبات ونزاعات في شأن الاعلان الدستوري الذي رأى فيه كثيرون انتكاسة للديموقراطية، على رغم بعض التحسن في الاجور والمعاشات. كان من محصلة ذلك ان المرحلة الانتقالية الثانية شهدت حالة من الاستقطاب الشديد بين القوى الاسلامية والقوى المدنية والليبرالية واليسارية والشباب الثوري ومعهم قطاع واسع من المسيحيين الذين اصيبوا بالذعر من صعود الاسلاميين. وما زاد من تعقد الامور استدعاء الجيش للاطاحة بأول رئيس مدني منتخب وتقلب المعارضة من المطالبة بتطهير اجهزة الشرطة والقضاء والاعلام الى الاصطفاف معها من اجل اسقاط حكم الاخوان. ازاء هذا الوضع المتأزم سعت الدراسة الى استطلاع آفاق المستقبل فوصفت الملامح الرئيسة لاربعة سيناريوات اولها استمرار حكم الاخوان ومعه استمرار التداعيات السلبية على الاقتصاد والامن، وثانيها سيناريو الديكتاتورية الاسلامية وفرض حالة الطوارئ والاحكام العرفية وثالثها سيناريو الديكتاتورية العسكرية وعودة الجيش الى السياسة واسترضاء الشعب ببعض اجراءات العدالة الاجتماعية، ورابعها سيناريو الائتلاف الوطني والتفاهم على صيغة للعمل المشترك. بافتقار هذه السيناريوات جميعها الى مقومات الاستدامة يبقى التساؤل عن امكانية للوصول الى سيناريو التنمية المستقلة المتوافق مع متطلبات تحقيق العدالة وغيرها من اهداف ثورة يناير. لكن خلافاً لهذه السيناريوات انتقلت مصر الى سيناريو الديكتاتورية العسكرية بأسرع مما كان مقدراً. فتظاهرات 30 يونيو 2013 اتضح ان الجيش لم يكن بعيداً منها، حيث سار في هذه التظاهرات عناصر امنية وعسكرية. ووقع انقلاب عسكري عزل بموجبه الرئيس المنتخب واعتقل وتعطل الدستور وألغي مجلس الشورى وعاد الاعلام ذو الصوت الواحد، وظهر على السطح من جديد جهاز امن الدولة وأعيد اليه كثيرون من قادته السابقين، ما يؤذن بعودة البلاد الى القمع والاستبداد. وخشي كثيرون من السلطات الواسعة التي منحها الاعلان الدستوري للرئيس الموقت، سيما ان السلطة الفعلية باتت بيد قائد الجيش. هكذا اتضح ان القوى المضادة للثورة كانت اقوى مما قدّر المؤلف وغالبية الناشطين والمتابعين للمشهد السياسي. فشتان بين يناير الذي وحد الشعب ويونيو الذي عمق انقسام المصريين الى كتلتين متناحرتين، بين ثورة يناير التي حددت مطالبها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية، وبين بيان 3 يوليو الذي خلا من اي ذكر لهذه المطالب. لقد اطاحت قوى 30 يونيو والجيش بهدف الحرية التي طرحته ثورة يناير، فليس من المتصور ان تحقق هذه القوى المتنافرة اهداف تلك الثورة بهدم دولة الفساد وفرض الرقابة على مالية الجيش وتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. لا شك في ان انقلاب يونيو يمثل انتكاسة لثورة يناير، لكن التداعيات السلبية لسياسات اقتصاد السوق الرأسمالي المفتوح التي كانت من اسباب قيام تلك الثورة، ستؤجج الصراع الطبقي واشتداد الدعوة للابتعاد عن النموذج التنموي الذي انتج هذه التداعيات السلبية. في مواجهة هذا المآل المربك لثورة يناير يجب الا تغيب عن الاذهان دروس التاريخ التي تفيد بأن الثورة ليست مجرد هبة انفعالية او انتفاضة لحظية، وانما هي عملية تاريخية يمكن ان تمتد الى اعوام، وان الثورات قلما تنجز اهدافها دفعة واحدة، وقلما تنجو من الانتكاسات، بل انها قد تحتاج الى جولات متعددة لتصحيح مسارها واستئناف النضال من اجل تحقيق اهدافها. * كاتب لبناني