ماذا يعني وجود مليون متظاهر أو مليونين في ميدان التحرير اليوم؟ يعني أن التظاهرة سجلت رقماً قياسياً في عدد المطالبين بتغيير نظام الرئيس حسني مبارك. هل ما سبق هو الصورة كاملة لما يجري في مصر هذه الأيام؟ الانطباع الأول هو أن نقول نعم، غير أن هناك صورة أخرى، وأسال من جديد: ماذا يعني وجود مليون متظاهر أو مليونين في ميدان التحرير اليوم؟ يعني أن 81 مليون مصري لم يتظاهروا ولم يطالبوا بتغيير نظام الرئيس حسني مبارك. الصورتان صحيحتان وربما كانت هناك صورة ثالثة أو رابعة لم تخطر لي ببال، ولكن إذا كان لي أن أصدر حكماً موضوعياً، وأنا لست من أي فريق ولست من خصوم النظام في مصر، فإنني أقول إن الشعب المصري يطالب بالتغيير وإن الواجب يقتضي النزول عند إرادته. صورة الحكم الصحيح هي الشورى، وقد تعلمنا «وشاورهم في الأمر» و «أمرهم شورى بينهم»، أو الديموقراطية بلغة العصر بين الحاكم والمحكوم وبين الناس. ولكن هل الديموقراطية هي الصورة الوحيدة، أو النظام الوحيد للحكم الرشيد. عندنا قدر كبير من الممارسة الديموقراطية في الكويت ولبنان، غير أن البرلمان الكويتي والشعب اللبناني دعاية ضد الديموقراطية. النقيض للديموقراطية هو الديكتاتورية، ولكن هذه بحاجة الى ديكتاتور متنور، وهذا أندر من «بيض الأنوق أو الأبلق العقوق» كما في أمثال العرب، وباختصار لم يكن عندنا يوماً، وليس عندنا اليوم، ديكتاتور («لايت» مثل الكولا) من نوع لي كوان يو الذي اجترح في سنغافورة معجزة من لا شيء. ما عندنا هو ديكتاتور أعمى من نوع صدام حسين الذي دمر بلاده وكاد يدمر المنطقة حولها، وذهب ليحاسبه ربه على ما جنت يداه، ولا يزال الدمار الذي أطلقه مستمراً. ربما كانت الصورة ليست الديموقراطية ونقيضها الديكتاتورية، وإنما الذين يمارسون هذه أو تلك من الحكّام العرب، وهنا نجد صورتين، كلتاهما خطأ. وبعضنا يقول إن الحكّام العرب شاخوا وفقدوا صلتهم بالجماهير والعصر، أو إن الحكّام العرب شباب من دون خبرة يتعلمون الحكم فينا. الإسكندر المقدوني غزا العالم المعروف في أيامه وهو دون الثلاثين والفكر الفلسفي اليوناني القديم لا يزال أساس كل فكر معاصر، والشَّيخان شارل ديغول وكونراد أديناور بنيا نهضة أوروبا كلها بعد الحرب العالمية الثانية، وليس فرنسا وألمانيا وحدهما. في المقابل، العقيد معمر القذافي جاء الى الحكم في ليبيا وهو في التاسعة والعشرين، ولا يزال اليوم في الحكم وهو في السبعين ولم ينجح شاباً أو «شيبة». ماذا يبقى من صور إذا كانت الديموقراطية والديكتاتورية فشلتا في بلادنا، وإذا كنا نرى تقصير شيوخ الحكم وشبانه؟ هناك نموذج «اللاحكم» أو الفوضوية، وقد كانت هناك حركة فوضوية ناشطة في أوروبا في بدايات القرن العشرين. مشكلة الفكر الفوضوي أنه يحمل في طياته بذور تدميره، لأن الفوضوي يصل الى الحكم وبرنامجه أن يلغيه، أي يلغي وجوده فيه معه. لعل أقرب مثل على النظام الفوضوي في بلادنا هو الصومال الذي لا أعرف من يحكمه أو كيف يُحكم، فلا أسمع عنه إلا عندما يرتكب تنظيم «الشباب» جريمة، عادة ما تكون بحق امرأة، أو عندما تخطف سفينة في عرض البحر، فالنظام الفوضوي في الصومال أفرز نظام قرصنة ونحن في القرن الحادي والعشرين. غير أنني بدأت بمصر وأعود إليها، فقد اعتبرتها دائماً «أم الدنيا» من منطلق المحبة لا المنطق أو الاقتناع، ثم جاءت أحداثها الأخيرة فكانت «مانشيت» الصحف الكبرى حول العالم على امتداد أسبوعين حتى الآن، حتى إنني بدأت أفكر أن مصر ربما كانت «أم الدنيا» فعلاً. هذه صورة، أما الصورة الأخرى فهي أن نصف ما قرأت كان عن إسرائيل أو بسببها، أو دفاعاً عنها، وأكتفي بالكتّاب الأميركيين، لأن أميركا جعلت نفسها طرفاً في الأزمة المصرية، ولنفوذ هؤلاء الكتاب، فقد قرأت مقالات جميلة تزخر بالتعاطف مع شعب مصر كتبها نيكولاس كريستوف ومقالات موضوعية لتوماس فريدمان، ثم قرأت لروجر كوهن وجوناه غولدبرغ، وكلاهما ليكودي حتى لو أنكرا ذلك، أن الانتفاضة المصرية ألغت عذر أن إسرائيل هي السبب الذي كان يستعمله «الأتوقراطيون» العرب لتبرير فشلهم، وهذا مع العلم أن ميدان التحرير أكثر عداء لإسرائيل من رئاسة الجمهورية، وأن تقصير الحكومة المصرية، أو أية حكومة، سواء كان حقيقياً أو متوهماً، لا يلغي الاحتلال وجرائمه. طبعاً، أنصار إسرائيل جميعاً يخشون صعود الإخوان المسلمين. وأنا لا أريدهم أن يحكموا مصر، ولكن إذا كانوا يخيفون جماعة إسرائيل فأنا معهم في الحكم وخارجه. أخيراً، فكل ما حاولت أن أفعل اليوم هو أن أحضّ القارئ على أن يرى الصورة كلها، أو الصورتين أو الصور، ثم يقرر. [email protected]