في آخر ظهور رسمي له، كرئيس لأركان الجيش الإسرائيلي، استعرض غابي اشكينازي أمام المشاركين في مؤتمر هرتسليا، الذي عقد تحت عنوان «المناعة القومية لدولة إسرائيل»، بعض تصوراته للتطورات التي تشهدها المنطقة وتبعاتها على إسرائيل. وعلى عكس المتوقع، لم يركز في حديثه على الهبات الشعبية في تونس ومصر، بل على لبنان بالذات. فتحدث عن «التغييرات الانقلابية» في الحكومة اللبنانية وقال إن التيار الراديكالي المعادي لإسرائيل تغلب على القوى المعتدلة وإن التغييرات الأخيرة تعزز مكانة إيران وقدرتها على التأثير على ما وصفها «الجهات التي تدور في فلكها»، وبعد هذا التركيز، تطرق إلى الجبهات الأخرى: «ليس فقط حزب الله، بل أيضاً سورية وحماس وحتى مصر». فالكل ينبع من إيران، ولكن بالتركيز على الذراع اللبنانية لطهران، أي حزب الله وحلفائه في لبنان، على حد تفسيره. وهنا راح اشكينازي يركز على الحالة التي يترك فيها الجيش، ك «جيش قوي قادر، يمتلك القدرات العالية والخبرة الغنية والإفادة من التجارب». وطلب من الحكومة أن تواصل تعزيز قدراته ورفع موازنته حتى يستطيع القيام بالمهمات المقبلة والاستعداد للسيناريوات الجديدة والمتوقعة للحرب المقبلة، مركزاً مرة أخرى على الملف اللبناني والتغييرات التي يشهدها ودور إيران في ذلك، من جهة، وتأثيرها على مستقبل المنطقة، من جهة أخرى. وعرض اشكينازي بعض ما يملك من معرفة في تاريخ المنطقة والعالم، ليوجه من خلالها تصوراً للأحداث، كمن أراد أن يبعث بأكثر من رسالة إلى اكثر من جهة.. لا سيما للدول المحيطة بإسرائيل ولقيادة بلاده العسكرية والسياسية وحتى لخلفه رئيس الأركان الجديد، بيني غنتس. حديث اشكينازي في التفاخر بجيشه وقدراته كان ذا أهداف واضحة، ليس من حيث التهديد للمحيط العربي، بل بالأساس كان ملائماً للأجواء المحيطة بخروجه من الجيش في هذه الظروف. فأشكنازي كان على صدام مع وزير دفاعه، ايهود باراك. وفي حين أدار باراك هذه الحرب علناً وبفظاظة، وانتقده الكثيرون بسبب ذلك وأداروا ظهورهم إليه، فقد حرص اشكينازي على تجاهل باراك والتركيز على عمله المهني من دون ضجيج. وقد قصد بهذا الحديث بالأساس أن يوضح انه مشغول ببناء قدرات الجيش وليس بالثرثرات التي ينشغل بها باراك. وأنه نجح في ذلك، وتخطى حرب الجنرالات التي شنها باراك. ولكن، ما لم يكن واضحاً للكثيرين، هو تعمق اشكينازي في الحديث عن لبنان. فهو غاضب على كل من سعد الحريري ووليد جنبلاط ، اللذين حظيا منه بنعت «أصحاب سياسة الجبن والإذلال». فقد اعتبر زياراتهما إلى سورية بمثابة ذل ونفاق. ووصفها ب «الزيارة إلى كانوسا» ثم راح اشكينازي يعد لخلفه قائمة من التحديات التي تنتظره كقائد جديد للجيش الإسرائيلي لكنه في الوقت نفسه شدد انه يترك هذا الجيش، الذي تولاه منذ اربع سنوات بعد أن خرج جريحاً وبائساً ومصدوماً من حرب تموز، قوياً قادراً على مواجهة مختلف سيناريوات الحرب المتوقعة وإن واجهتها إسرائيل من مختلف الجهات وفي آن واحد... ولم يترك اشكينازي كلمة مديح في القواميس العسكرية الإسرائيلية إلا وضمنها تقريره حول وضعية جيشه. لكن اشكينازي استدرك الأمر تحسباً لواقع قد يصطدم به خلفه غنتس ويعكس صورة مناقضة تماماً، فجعل من إيران ولبنان ملفاً واحداً قد يكون التحدي الأكبر لخلفه. وفي هذا الجانب نعود إلى قلعة «كانوسا». فلمن لا يعرف، فهي القلعة التي شيدها البابا غريغوريوس السابع. وقد اشتهرت عندما توجه إليها هنري الرابع، طالباً الاعتذار من قداسة البابا. ففي كانون الثاني/ يناير من عام 1077، فرض البابا غريغوريوس السابع الحرمان على الإمبراطور هنري الرابع، اثر خلافاتهما على إدارة الحكم. ومن أجل أن يرفع البابا حرمان هنري الرابع كنسياً، أُجبر الأخير على الوصول إليه في تلك القلعة ذليلاً. ورغم العاصفة الثلجية ظل راكعاً على ركبتيه لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال أمام بوابة قبل أن يدخل القلعة ثم فتح له باب القلعة، وحصل بالتالي على العفو و الغفران من البابا ، ثم عاد» هنري الرابع « إلى ألمانيا وعاد البابا إلى روما. والملف اللبناني خيم على رسائل اشكينازي التي بثها إلى الخارج وفيها تحدث عن إنجازاته التي حققها خلال السنوات الأربع الماضية وعلى رسائله الداخلية واستبق فيها التحديات التي يضعها أمام خلفه غنتس. فقال :«بات لبنان صورة مصغرة للوضع في الشرق الأوسط بخاصة في العلاقة بين الراديكاليين والمعتدلين وعلى إسرائيل أن تكون مستعدة لمجابهة خطر توثيق العلاقات بين التنظيمات الراديكالية. واستخلاصنا الأساس من حرب تموز لا يقتصر على ضرورة التدريب لمواجهة الأوضاع الناشئة في المنطقة إنما التدريب حتى على صواريخ غير تقليدية. فإسرائيل وبقدر ما هي صغيرة، يواصل اشكينازي، لا يمكن تغطيتها بقبة حديدية لحمايتها من الصواريخ. إننا في حاجة لمنع الصواريخ عنها والدفاع عن سكانها عن مركز البلاد وعن مواقعها الاستراتيجية». النقمة القوة التي تناول فيها اشكينازي ملف لبنان في أيامه الأخيرة في رئاسة الأركان جاءت بمثابة تحد للرئيس الجديد غنتس، وهو الضابط صاحب الخبرة الكبيرة في الملف اللبناني وهو الذي وضع مع اشكينازي خطة «تيفن» متعددة السنوات في الجيش الإسرائيلي، ويتوقع منه الكثيرون أن ينجح في جعل الجيش يتكيف مع الظروف الجديدة . الحديث عن حرب، يختلف عند غنتس عنه لدى الحكومة الإسرائيلية. وكما هو معروف فهو وصل إلى هذا المنصب بقرار من نتانياهو وباراك، ولكن ليس بإرادتهما. هما رغبا في الجنرال يوآف غالانت، الذي يوافقهما على سياسة الحرب ضد إيران، لكنهما اضطرا إلى التراجع عن تعيين غالانت بسبب قضايا الفساد المتورط فيها. وغنتس من جهته، لم يحاول فعل شيء جدي لإقناع بنيامين نتانياهو وباراك، بأن يختاراه بديلاً منه. وهكذا، جاء غنتس بقوة غير عادية، وهما يعلمان انهما قد يواجهان استقلالية مؤذية من طرفه، وقد يواجهان صعوبة في العمل معه في كل ما يتعلق بالحرب على إيران. ورغم التحديات التي وضعها اشكينازي أمامه بخاصة في الملف اللبناني إلا انه ليس من أولئك الذي يسرعون إلى الحرب، ومع هذا فإذا ما تحولت التقارير الإسرائيلية إلى واقع على الأرض ونشبت الحرب فإن رئيس الأركان الجديد يتمتع بخبرة ليست قليلة في الملف اللبناني. فهو اول ضابط دخل إلى لبنان محتلاً عام 1982 في وحدة المظليين وبقي في الأرض اللبنانية 18 عاماً، وخرج منها كآخر ضابط عند الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب. ولم تتوقف علاقته مع الملف اللبناني عند هذا الحد فقد تم تعيينه قائداً للواء الشمال وهكذا اعتبر المسؤول عن إعداد الجيش الإسرائيلي قبل حرب لبنان التي سجلت في تاريخه حرباً فاشلة وتحمل غنتس، قسطاً ليس قليلاً من المسؤولية. ولكن مع هذا يراه عديدون في إسرائيل كأفضل الشخصيات المناسبة لرئاسة أركان الجيش، بالذات في هذه الفترة التي تهب في المنطقة عاصفة تحمل أبعاداً خطيرة على إسرائيل. وغنتس، في تصريحاته الأخيرة يولي أهمية غير عادية للبنان. فهو يختلف مع مواقف العديد من العسكريين والأمنيين بعدم رؤيته بحماس خطراً أساسياً على إسرائيل ويقول إن حزب الله يشكل خطراً استراتيجياً حقيقياً على إسرائيل ويشدد انه ذراع إيرانية. وفي الوقت نفسه، كان غنتس قد صرح في أكثر من مناسبة بموقف قريب من موقف اشكينازي بأن الحرب على إيران ليست حتمية. ويرفض أسلوب التهديد. ويرى ضرورة تسليم الملف الإيراني للغرب، باعتبار أن وجود أسلحة نووية في إيران يهدد ليس دول المنطقة، بل يهدد العرب والعالم. فماذا يخفي غنتس بهذه التصريحات؟ غزة غير مهمة، إيران لا حاجة للحرب معها، وحزب الله خطر استراتيجي. هل يريد غنتس أن يعود إلى لبنان حتى يتحرر من عقدة الانتقام التي انتابته من جراء ما حصل في حرب تموز؟ فهو كان في قفص الاتهام بسبب فشله في إعداد الجيش للحرب. ويريد أن يطوي صفحة لبنان بشكل نهائي من حياته. ويعتقد أن الظروف مواتية لتصفية حساب جديدة، خصوصاً بعد أن أقيمت حكومة جديدة هناك بقيادة حزب الله وتأثيره. فمثل هذه الحكومة يسهل ضربها، إذا لم تتخذ الإجراءات المطلوبة منها لفرض الهدوء على الحدود الأمنية مع إسرائيل. والضرب في لبنان، هو حلقة في حرب مع إيران. ولهذا، فإن حصيلة الموقف اليوم تبدو كمن يريد حرباً صغيرة مع إيران، يتفق فيها الطرفان على أن يكون لبنان ساحتها.