انعقدت القمة الاقتصادية العربية الثانية في شرم الشيخ بمصر بتاريخ التاسع عشر من شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، وهو التاريخ نفسه الذي شهدته القمة الاقتصادية العربية الاولى في الكويت عام 2009. أتت القمة الاقتصادية جواباً عن ادراك رسمي لحجم المعضلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها مجمل الشعوب العربية. حمل البيان الأول قبل عامين جملة اقتراحات لعلاج هذه المعضلات، على ان تقف القمة الثانية امام ما انجز وما لم يتم انجازه ليجري البحث في تجاوز العوائق التي منعت هذا التنفيذ. لكن الجديد في هذه القمة ليس البيان الصادر عنها بمقدار الانفجارات التي بدأت تشهدها المجتمعات العربية تحت عنوان «الخبز والحرية» مهددة الأنظمة العربية بالسقوط الواحد تلو الآخر. التأمت القمة في ظل انهيار السلطة في تونس ورحيل رئيسها زين العابدين بن علي، وبين إرهاصات الشارع المصري الذي لم يتأخر عن التعبير عن غضبه سوى خمسة ايام على انتهاء أعمال القمة. أتى الحدثان التونسي والمصري ليكشفا المفارقة بين قرارات تتخذها القمم العربية على الورق، وهي قرارات تحمل من «الفخامة» والوعود المضللة، وبين واقع شعبي يعاني الحرمان والفقر والبطالة والتهميش، إضافة الى استبداد وتسلط وقمع للحريات السياسية والفكرية في كل مكان من هذا العالم العربي. فكان لا بد لهذا الاحتقان من ان يجد تصريفه في الشارع، وان يتجاوز هذه المرة المطالب المحددة ليصل الى ضرورة تكنيس النظام والطبقة الحاكمة في البلاد. اذا نظرنا الى قرارات القمة الاقتصادية الثانية كما صدرت في «اعلان شرم الشيخ»، فلا شك سنعثر على توصيات فخمة وحقيقية لتوصيف المعضلات وإيجاد الحلول لها. واذا ما قارناها بتوصيات القمة الاولى في الكويت، لوجدناها نسخة طبق الاصل الى حد بعيد عن قرارات الكويت. وليس مبالغة القول، لو ان القمة الاقتصادية كانت تنعقد قبل عشر سنوات، لوجدنا اجتراراً للقرارت نفسها وللتوصيات ذاتها كما هو حاصل اليوم. في عودة سريعة الى قرارات القمة، نجد كلاماً حول ان «الامن الغذائي يمثل أولوية قصوى للدول العربية، ولا بد من التعامل معه بفكر جديد ورؤية هادفة تضمن تحقيقه لمجتمعاتنا العربية». كما تتطرق القمة الى الحرص على «الارتقاء بمعيشة المواطن العربي ومستقبله»، وتدعو من أجل ذلك الى تذليل العقبات التي تحول دون تحقيق الاهداف التنموية، مع التشديد على أهمية تطوير القدرات البشرية وتفعيلها. وفي السياق نفسه، تؤكد القرارات على الالتزام «بإتاحة الفرص امام الشباب العربي لتمكينهم من المشاركة الفاعلة في المجتمع، وتوفير فرص العمل لهم»، هؤلاء الشباب الذين يمثلون نحو 25% من مجموع تعداد السكان في المجتمعات العربية. هذه العناوين وغيرها وردت تقريباً في بيان القمة السابقة، بل هي ترد في خطط وبيانات الحكومات العربية منذ عقود، وتعود البيانات والقرارات تلوكها كل فترة من دون ان تشهد تنفيذاً على أرض الواقع. من حق المواطن العربي ان يتساءل عن الاسباب التي منعت الحكومات العربية من معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، خصوصاً ان بيانات القمة ومعها البيانات والخطط الحكومية تقر وتعترف بهذه المشكلات، وان العالم العربي لا تنقصه الموارد المالية للدفع في تنمية بشرية يمكن لهذه الموارد ان تحدّ كثيراً من الفقر والتخلف. لا يقع الأمر في باب الجهل بالواقع بمقدار ما يتصل بطبيعة السلطة والنخب المهيمنة التي احتكرت الموارد ووظفتها لمصالحها، بما أنتج أقلية فاسدة من النظام ومن حوله، نهبت البلاد و«احتقرت» تطلعات الشعب الذي يئن من وطأة الفقر والجوع والحرمان. لم تكتف السلطات الحاكمة بتكريس الحرمان الاقتصادي، بل سيَّجته باستبداد سياسي، فمنعت تكوين معارضات فعلية وزوّرت الانتخابات البرلمانية لمنع انتخاب من لا يوافقها الرأي، وهو ما شهدته مصر بأبشع صور خلال الاشهر الاخيرة، وزجت بالمعارضات في السجون، او أرسلتهم الى المنافي، وصمّت آذانها عن كل دعوات للإصلاح قبل فوات الأوان. بين قرارات اتخذتها القمة العربية في قصور شرم الشيخ الفخمة، وبين ما يشهده الشارع العربي راهنا في مصر وتونس، وما يمكن ان يتطور لاحقاً في بلدان اخرى، تكمن المفارقة العربية والمسافة البعيدة التي تفصل بين الشعوب العربية وحكامها. ان ما يجري اليوم في الشارع هو الابن الشرعي لهذه السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي جرت ممارستها على امتداد العقود. ان تنطلق الاحتجاجات تحت عنوان «الخبز والحرية»، وتذهب بعيداً في المطالبة بإسقاط النظام، هو نتيجة منطقية لاحتقان وصل الى حدود لم تعد الأطر الموجودة قادرة على ضبطه فانفجر، وعبَّر عن نفسه بأنواع شتى من المطالب، وترجمة ذلك على الأرض تحملها كل انتفاضة شعبية، من فوضى وشغب. فما يحصل في مصر ليس غريباً على مثل هذه الانفجارات، وهو امر عرفته بلدان العالم منذ الثورة الفرنسية عام 1789، وصولاً الى سائر الثورات التي شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر وبلدان العالم الثالث في القرن العشرين. قد يكون الأوان قد فات لاستدراكات تسمح بإصلاحات اقتصادية واجتماعية في اكثر من بلد عربي يشهد إرهاصات الانفجار، وقد نكون أمام مرحلة عربية من أبرز سماتها الانتقالية المرور الإجباري في الفوضى والعنف قبل ان تستقر تشكيلاتها السياسية والاجتماعية على نمط محدد لتكوين السلطة. انها بداية لا مفر منها. * كاتب لبناني