هناك أرقام يستوجب ألا تمر مرور الكرام، مع أننا نقدر حساسية الإفصاح عنها وألم التفاصيل، ونحترم شجاعة الإعلان، والعمل المضاعف من أجل كشف اللثام عنها وعمن وراءها. الرقمان الجديدان المعلنان يكشفان عن 632 مليون ريال صرفتها جهات حكومية من دون وجه حق، و11 بليون ريال فشلت الجهات ذاتها في استحصالها وتحصيلها. مأساة الصرف العشوائي لا تعادل فضيحة عدم التحصيل، لاسيما أنه من المتوقع أن يحدث العكس، لأن السلخ على أصوله من الجهات الحكومية إذا ما وصلت مسيرة الأوراق الرسمية لخانة التحصيل، الشيء الوحيد الذي سنحفظه عن ظهر قلب أن الصرف والتحصيل من دون الخوض في تفاصيلهما عائدان لجهات حكومية لا نزال نستحي منها، ونخشى أن نعلن عن مسمياتها ونراوغ من أجل أن نعالج الأمور والملايين بصمت. يحق للمواطن أن يعرف من تكون هذه الجهات؟ وهل صرفها لهذه المبالغ من دون وجه حق جهل بالأنظمة، أم تهاون وضرب باللوائح والأنظمة والمبادئ عرض الحائط؟ هل الصرف انطلاقاً من أن المال العام يعتبره الفاسدون مالاً سائباً، أم أن الصرف نزولاً عند رغبات بعض المسؤولين وتحقيقاً لأمانيهم الشخصية وتغليفاً للفساد في كيس حلوى مسموم، وأوراق نظامية تحفل بالكثير من الكلمات المطاطية التي تسحب لأقرب جيب، ويقوى بها أي شيك مصروف! هذا عن الصرف! وما أدراك ما الصرف؟ ولكن العجيب بالفعل هو الرقم الكبير للفشل في التحصيل، الذي يعنيني أن أفهم أسبابه أكثر من أسباب الصرف، لأن البطء في التحصيل والفشل فيه أمر كنا نعتقد أنه نادر الحدوث، أو غير قابل للمراوغة، لكن يبدو أن التحصيل كان من جيوب الكبار، فتم السكوت عنه ليتضخم الرقم في زمن وجيز، ليذهل وينذهل الصغار الذين تمزقت جيوبهم، وهلكت أقدامهم من التناوب على وجوه مهمتها التحصيل، وهو ما يثبته أن جل ما لم يتم تحصيله، كما يقال، يشمل إيجارات مستحقة على بعض المستثمرين، والغرامات على عدد من المؤسسات والشركات والأفراد وبعض المستوردين، إضافة إلى المقابل المادي لاستخدام الطيف الترددي، وعلى ذكر الإضافة الأخيرة «أطلب من ديوان المراقبة العامة أن يتجاهل هذه النقطة، فقد تكون صعبة على استيعاب وفهم وتقبل الجهات الحكومية، خصوصاً أن الخلاف عليها تحديداً يدور حول المقابل المادي من أجل الخدمة ذاتها، وهذا يحتاج لشرح وتفصيل قبل المطالبة بالاستحصال. قد لا نستغرب أن يظل الرقم ثابتاً في الأعوام المقبلة أو يزيد، بحسب إهمال مسببات الصرف العشوائي ومبررات المماطلة في التحصيل، والتراخي في تقييمها وتقويمها، لكن شكراً لأن لدينا جهة أعلنت عن ذلك بجرأة، حتى وإن كان لسان هذه الجهة متمثلاً في مسؤول يرفض ذكر اسمه، وهذه النقطة بالتحديد قد يكون لها حديث مستقل لنعرف ما الذي يخافه مسؤولونا في الجهات الرقابية أو الحكومية حين يفصح أحدهم عن حقيقة صادمة أو معلومات لا تشرح الصدر. [email protected]