لم يُحدِث الكاتب المصري الفرانكفوني ألبير قصيري (1913 - 2008) جلبةً كبيرة خلال حياته المديدة، على رغم روايات ثمان ومجموعة قصصية وأخرى شعرية كتبها بريشة ذهبية، وميله الكبير إلى الاحتفال والسهر، ومعاشرته اليومية لأبرز الوجوه الأدبية والفنية في باريس. ولتسليط الضوء على أمثولة هذه الحياة الاستثنائية المهدَّدة بالإهمال، وردّ بعضٍ من الاعتبار لصاحبها الذي رصد موهبته الكتابية الفريدة لمدح البساطة والكسل وكشف عبثية السعي خلف الأشياء المادّية، وضع الكاتب والباحث الفرنسي رودولف كريستان كتاباً حوله صدر حديثاً عن دار L'Echappée الباريسية تحت عنوان «صحراء الطموحات». وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذا البحث هو نصُّ اعترافات مراقبٍ بصير ومجرّد من الأوهام لعالمنا الراهن، وفي الوقت نفسه، بورتريه دقيق لقصيري كروائي جعل من الخمول قيمة مطلقة، وكخيميائي بحث وعثر على «ذهب الزمن» في حياة مجرَّدة من أي طموح. ولذك، يقول كريستان، حافظ صاحب «ألوان الدناءة» على وضعية الكاتب السرّي طوال حياته، ليس لأنه لم يكن قادراً على بلوغ الشهرة أو لأنه لم يكن يستحقّها، بل لأنه فضّل عليها العيش بطريقة تحول دون وضعه في خانة «الأحياء الأموات»، أي أولئك الكتّاب المشغولين دوماً بالتنافس والتصارع في ما بينهم لاحتلال موقعٍ متقدّمٍ تحت الأضواء. وبالتالي، لم يسعَ كريستان، الذي سبق وفضح الضوضاء العقيمة والمدمِّرة لعالمنا الراهن في كتابٍ بعنوان «استنزاف العالم، نقد الغباوة السياحية»، إلى وضع سيرة تقليدية لقصيري، إذ كيف نكتب سيرة رجلٍ لم يفعل أي شيء ولم يرغب في فعل أو تملّك أي شيء؟ بل نسج، انطلاقاً من نصوص الكاتب، تأمّلات مثيرة في حياة أبطال رواياته. تأمّلات يستخلص القارئ بسهولة من خلالها بورتريه لكائن فريد عاش حياته تماماً مثل الشخصيات التي ابتكرها، أي في قناعة سعيدة. وفي هذا السياق، لا تحمل فصول هذا البحث عناوين مثل «طفولة»، «مراهقة»، «نضج» و «شيخوخة»، بل «قناعة سعيدة»، «طرافة الحياة»، «قلب القِيَم»، «حياة وموت الثورات»، «سجن الحياة المدجَّنة»، «البطالة الجموحة والمبدعة»، «العيش بلا وظيفة» و «مديح التهرّب». عناوين تلخّص على أفضل وجه الرسالة الوحيدة التي كرّرها قصيري في كل أعماله، أي رفض المجتمع والعمل والزواج وأي قيد أو إكراه، من خلال شخصيات هامشية غنية بالألوان تعيش في القاهرة أو في الريف المصري. شخصيات يستعين كريستان بمواصفاتها ومواقفها لرسم شخصية مبتكرها واستخلاص وصاياه، مستنتجاً منهجه الوحيد، السخرية، ومستشهداً عند كل فرصة بفقرات من كتبه تحضر كما لو أنها بنود قانونٍ يتعذّر التشكيك بجدواه أو بجانبه السديد. أكثر من ذلك، يعمد الباحث إلى كشف النقاط المشتركة بين قصيري وكتّاب وفنانين آخرين من زمنه، مثل الفيلسوف الروماني إميل سيوران والكاتب الأميركي هنري ميلر والفنان الروسي كازيمير ماليفيتش ومؤسس حركة «مبدعي الأوضاع» الفرنسي غي دوبور ومواطنه الفيلسوف كليمان روسّيه، علماً أن صاحب «شحّاذون وفخورون» كان يفضّل الاستشهاد بالكتّاب الروس، وفي مقدّمهم إيفان غونتشاروف، وبرواية الكاتب الألماني توماس مان «الجبل السحري» التي قرأها مرات عديدة وكتب صاحبها فيها: «أن نرفض العمل لحساب شخصٍ آخر هي وسيلة ناجعة لبلوغ حرّيتنا. (...) بتقاضينا أجراً مقابل أي جهد، ندفع كل يوم كلفة حياةٍ مُنحت لنا مجاناً». ويمكننا أن نضيف على الأسماء المذكورة أسماءً أخرى كثيرة تربط أصحابها قرابةٌ أكيدة مع قصيري، مثل الكاتب الإسكوتلندي روبرت لويس ستيفنسون الذي ذكّر مراراً بأن القدرة على البطالة هي سمةُ طبيعةٍ غنيّة ووعيٍ حادٍّ لهويةٍ فريدة، أو الكاتب الألماني روبرت فالسِر الذي أقرّ بأن طموحه الوحيد هو أن يكون «صِفراً مدوّراً»، أو الكاتب النروجي كنوت هامسون الذي ابتكر في رواياته وقصصه شخصيات متشرِّدة ترفض الانصياع لإكراهات المجتمع، من دون أن ننسى العملاق هيرمان هيسّه الذي وضع بحثاً بعنوان «فنّ البطالة» وسيّر في رواياته شخصيات تستبدل الحياة المنمَّطة بالتسكّع المنير. لكن ما يميّز صاحب «طموح في الصحراء»، في نظر كريستان، ويجعل منه سيّد «التحرّر من أي التزام» هو عدم اكتفائه بالترويج لأفكاره الثورية في رواياته، بل التزامه بها ووضعه قيَم البساطة والبطالة والكسل التي رفعها موضع التنفيذ في حياته بالذات التي تشكّل خير نموذجٍ لانعتاقٍ راديكالي من القيود الاجتماعية وإغراءات العالم. لكن هذا لا يعني أن قصيري التزم هذه الوضعية منذ صباه، فرواياته الأولى تحمل شحنةً عدائية ضارية لا يمكن تجاهلها تجاه المجتمع وخصوصاً تجاه السلطات الحاكمة. وإذ يبالغ بعض النقّاد في اعتباره كاتباً عربياً تنبّأ ومهّد لحدوث الثورات العربية الأخيرة، لا نخطئ في استشفاف توقٍ إلى التمرّد ودعوة إلى العصيان الشعبي في الجزء الأول من أعماله، قبل أن يختار السخرية كسلاحٍ وحيد في أعماله اللاحقة فتتوارى أي رغبة لديه في زعزعة السلطة أو الانتقام منها. وفعلاً، لن يبلث صاحب «العنف والسخرية» أن يفضّل على التمرّد المسلّح الاسترخاء الفردي والخمول المثالي في عالمٍ تسعى السلطات فيه إلى التحكّم بحياة كل فرد، مستعينةً بالعمل كأفضل وسيلة لبلوغ غايتها. يبقى أن نشير إلى أن كريستان يشحذ في بحثه أسلوباً حادّاً وشديد الحساسية من أجل محاصرة قصيري الإنسان، ويلجأ إلى زوايا مقارَبة مختلفة من أجل كشف جانبه المبدِع. ولكن أبعد من التأمّل الثاقب في آثار هذا العملاق وحياته، يشكّل هذا البحث خصوصاً دعوة إلى التحرر من المجتمع المادّي الراهن بكل ارتهاناته وإغراءاته، من أجل العثور، داخل البساطة والترفّع، على طُرُق أخرى للحياة. الملاحظة السلبية الوحيدة التي نسجّلها على هذا البحث هو أن صاحبه نسي أن يقول إنّ ما سمح لقصيري برفض العمل والاكتفاء بالقليل في حياته هو وضعه الاجتماعي بالذات كبرجوازي مصري كان يتمتّع بإيراد ثابت من عائلته، مهما كان متواضعاً، وأيضاً وضعه كمثقّف كان يعيش داخل محيط فكري وأدبي باريسي وفّر له المساعدة في كل مرة احتاجها. وبالتالي، قليلون جداً هم الأشخاص اليوم القادرون على العيش مثله في عالمٍ لن يتغيّر إلا إذا عملنا جميعاً على تغييره. ومع ذلك، لا نخفي على القارئ أن معاشرة قصيري الحميمة التي يسمح بها هذا البحث تمنحنا في نهايته الرغبة في الاستسلام لقيلولة مريحة تحت الشمس، غير مكترثين لضوضاء العالم.