منذ عرضه في «مهرجان كان السينمائي»، أثار الفيلم الكوري «أوكجا» الجدل، فالبعض تحفظ على ترشحه للسعفة الذهبية، بالنظر الى أنه غير معد أساساً لشاشة السينما. في ما قالت بطلته تيلدا سوينتون إنهم جاءوا لعرض الفيلم وليس للحصول على جوائز. كما رفضته الصالات الكبرى في كوريا الجنوبية، واعتبرت أن العرض المتزامن في قاعات السينما وعلى الإنترنت يتعارض مع معايير صناعة السينما. تقف وراء الفيلم شركة عملاقة هي «نتفليكس» وكلفته موازنة تقدر بحوالى خمسين مليون دولار، بهدف عرضه على الهواتف وشاشات «الآيباد» وليس على شاشة السينما فقط. وربما يكون ذلك وراء العطل الذي تعرض له الشريط في مهرجان «كان» وعدم ظهور جزء من الصورة. وبالنظر إلى فلسفة إنتاجه، نجدنا إزاء نقلة تتجاوز مفهوم السينما التقليدية، والاختلافات بين الأفلام السينمائية والتلفزيونية، فهو عمل مخصص للوسائط الحديثة بالدرجة الأولى، يمكن طلب عرضه على جهازك الشخصي مباشرة. ما يعني عدم الحاجة إلى انتظار مواعيد الصالات ومشاركة آخرين لا تعرفهم متعة المشاهدة، وانتهاء الفكرة الرومانسية الخاصة بتعتيم الصالة. وسبق لفنون أدائية وجماعية كثيرة أن تضررت من التطور التكنولوجي، أهمها «المسرح»، لأن الجمهور بات أكثر كسلاً وميلاً إلى المشاهدة الفردية وإعادة ترسيم علاقته مع العالم كله، عبر جهاز الآيباد الخاص به. فمثلما يوفر له فرصة التواصل مع المنصات الإعلامية وبرامجه الموسيقية المفضلة وألعاب الفيديو جيم، أصبح بإمكانه أن يوفر له شرائط السينما التي لا تتطلب دورة الإنتاج والتوزيع التقليدية. في سياق تلك الفلسفة، اختيرت قصة «أوكجا» التي كتبها وأخرجها الكوري بونغ جون هوو، وشارك في كتابتها جون رونسون، وهي قصة لا تأتي من محاكاة الواقع، بل عبر خيال قصص الكوميكس المصورة، إذ تتناول العلاقة العاطفية بين الصبية الكورية «ميجا» (ولعبت دورها آنسيوهيون)، والخنزيرة الضخمة التي يحمل الفيلم اسمها، «أوكجا». هذا الارتباط العاطفي بما فيه من مغامرات، بين طفلة وحيوان أليف، يوحي أننا أمام شريط عائلي موجه للأطفال بالدرجة الأولى، مستعيداً في حواراته ومشهديته روح «الكوميكس». مثلما تذكرنا الضخامة الهائلة ل «أوكجا» بأفلام عالمية كثيرة استلهمت صراع الإنسان مع حيوانات أسطورية مثل الغوريلا في «كينغ كونغ»، مع ملاحظة أن «أوكجا» مسالمة إلى أبعد مدى، بل هي في حقيقة الأمر ضحية شركة «ميراندو» للأغذية التي تقوم بإنتاج حيوانات معدلة وراثياً للحصول على أحجام هائلة تكفي حاجة المستهلكين من اللحم. فالفيلم يبدأ بمشهد استهلالي لمديرة الشركة «لوسي» (لعبت دورها تيلدا سوينتون)، بين جمهور كبير، وكاميرات، وحركات محسوبة، وهي تروج لشركتها، وحاجة جميع البشر إلى حصتهم من اللحوم. فهي تخفي جشعها للمال، بحجة حق الفقراء في اللحم! كما تحتال على تعديل اللحوم وراثياً، ما يزعج المستهلكين خوفاً من أمراض كالسرطان، على رغم أنها تقوم بتربيتها في مناطقها الطبيعية، وبالفعل توزع 26 خنزيراً على مناطق مختلفة من العالم، لاختيار الفائز أو «السوبر» من بينها. وتقوم كاميرات الشركة بتصوير هذه الحيوانات وهي تنمو في بيئة صحية آمنة، ومن خلال مزارعين طيبين! الخط الفانتازي الذي جسدته سوينتون وفريقها وعلى رأسه الطبيب البيطري، والإعلامي، والمهرج «جوني» (جاك غلينهال)، يمثل قراءة هزلية ساخرة للرأسمالية العالمية وألاعيبها في الخداع، وفضح كيفية صنع رأي عام زائف، وتمرير أكاذيب متقنة. فالصور ومقاطع الفيديو تشير بوضوح إلى أن «أوكجا» عاشت ونمت في بيئة جبلية طبيعية في كوريا مدة عشر سنوات، لكن الحقيقة المخيفة والمخفية أنها من الأساس معدلة وراثيًا! وكأن العالم الإشهاري هو الذي يقود الواقع ويختلقه، ويعيد توظيف كل ما فيه من علم وأخلاق وإعلام، لخدمة الممولين. فحتى عندما تقاوم «أوميجا» تسليم «أوكجا» للشركة في نيويورك، وتخوض مغامرة خطرة يتم تصويرها من قبل «جبهة تحرير الحيوانات»، تسارع «لوسي» باستضافة «أوميجا» على نفقتها كي تصعد مع «أوكجا» على المسرح واستثمار العلاقة العاطفية بينهما. أما ما لن يراه المشاهدون، أنه سيتم ذبحها مثل غيرها في نهاية المطاف. «جبهة تحرير الحيوانات» أيضاً تم رسمها بطريقة هزلية أقرب إلى طبيعة «الكوميكس». واستفاد المخرج من التطور التقني ليس فقط في اختلاق حيوان ضخم مثل «أوكجا» بل في بناء مزرعة هائلة تسع العشرات منها، وتصوير خطوات الذبح «الآلي». ولا يخفى هنا انقلاب الدلالة، الكاشفة لرسالة الفيلم، فالبشر في حقيقة الأمر هم الوحوش والقتلة بسبب جشعهم.. بينما الحيوانات أكثر إنسانية منهم، وهو ما يظهر في لقطة شاعرية عندما يقذف زوجان من الحيوانات بطفلهما الصغير خارج السور فتخفيه «أوكجا» داخل جسمها، لتهريبه خارج المذبح. إلى جانب السؤال المتعلق بهوية السينما في عصر «الآيباد»، وإدانة جشع الرأسمالية وحيلها الإشهارية، ثمة سؤال آخر خاص بعلاقتنا بالحيوانات، فبعضها نعطف عليه ونربيه ونحزن لموته، ونرفض نهائياً تناوله في وجباتنا، مثل القطط والكلاب في معظم الثقافات... بينما حيوانات أخرى نربيها ونرعاها ثم لا نتردد في ذبحها وأكلها في هيئة «نقانق». ولاشك في أن طرح هذه الإشكالية بمثابة مغازلة للنباتيين حول العالم.