كتاب «كنائس النقد» للناقد الأكاديمي التونسي عبد الدائم السلّامي (الهيئة المصرية للكتاب، مصر، 2017)، هو ثورة في التفكّر النقدي الأدبي، وهو دعوة جديّة للمعنيين في الجامعات العربية والنقّاد إلى مناقشة وعينا النقدي العربي من أجل إعادة الاعتبار إليه «بعد فقدان شرعيّته»، وتخيّر كيفية التعامل مع النصّ الأدبي بعيداً من معابد المناهج الغربية التي كرسّت مصطلحات بعينها من دون أن تأخذ في الاعتبار خصوصية الحاضنة الحضاريّة لكلّ منهج نقدي، تلك التي أنشأته واستقرّت جيناتها فيه. وليس جديداً على متتبّعي مقالات عبدالدائم السلّامي النقدية، في المجلات المختصة وصفحات الجرائد الثقافية العربية، الوقوف على جرأته النقدية في الطرح والتحليل، وتسمية الأمور والنقاد والروائيين بأسمائهم، بموضوعيّة علميّة، وبأسلوب أدبي ساخر ومعجون بكثير من وجع الواقع وحمّال حلول وبدائل، وبمخزون ثقافي مكّنه من القدرة على الربط بين إحالات تبدو في ظاهرها متباعدة وهي في العمق متشابكة تحتاج إلى عين بصيرة تغوص إلى جذورها وتكتشف دلالاتها. لا يمكن للمشتغلين في النقد الأدبي، سواء أكانوا نقّاداً أم أكاديميين أم مدربين أم مدرّسين أم عاملين في حقل تحديث المناهج المدرسية والجامعية، أن يتعاموا عن أزمة النقد الأدبي الراهن ممثَّلة بأمور ومظاهر عديدة منها خاصة نمطيّة معالجة النصوص، إذ يكاد الطالب المدرسي يجيب عن أسئلة تحليل نصّ وإن كان لم يقرأه، أو هي تظهر عند النظر في الرسائل الجامعية، وتحديداً منها تلك التي تتناول الرواية، إذ يمكن لنا تبديل المنتج الروائي من دون أن تتغير عناوين البحث. وبما أنّ «النقّاد المدرسيّين العرب» قد نجحوا في تحويل تلك المناهج الغربية إلى كنائس لتطهير النصوص من إبداعها، جاء هذا الكتاب ليكون تمرّداً من الباحث على سلطة النقد الديكتاتورية، وعلى الانتصارات الوهمية للنقد «الدونكيخوتي»، بل وتمرّداً على المواقف التوفيقية في نقدنا العربي التي تُخفي خوف أصحابها من مواجهة الحقيقة تحت غطاءات التورية، وإن كان الباحث يعترف بأهميّة النص السيئ، لأنّه يرى فيه فرصة قرائية للوقوف على حقيقة نصّنا الإبداعي، بل يراه «علاجاً للقراءة من مرض الاطمئنان إلى الخارج»، وذلك من دون القبول المستسلم بهذا الواقع. ولأنّ عبدالدائم السلامي يرى أن الكتابة موقف، «وكتابة جُملة هي خلقُ حياة بأسرِها، حياة مُكتمِلة في اللغة»، ويعتبر النصّ الأدبيّ «أرض زلازل وألغام» فإنّه يعتبر كل «قراءة هي ورطة كتابة جديدة»، وعليه، كان تشكّل الجهاز التأويلي في كلّ عصر وصفاء الذائقة النقدية مرهونيْن معاً بكيفية التعاطي مع النصّ الأدبي، لأن في ذلك ما يساعد نص الناقد (القارئ) على أن يتحوّل من كاشف غير أمين لمعاني النص المقروء إلى جوهرة أدبية تحمل قيمتها ومتعتها في ذاتها، فلا تكون كالفطريات تعيش من فتات النص الأدبي. تتضح من الكتاب غايتان، تتقدّم إحداهما على الأخرى، الغاية الأولى هي تحرير القراءة النقدية من الاستسلام الكلي لمعابد المناهج الغربية في نمطيّتها، وقد «خلّف تطبيقُها الأعمى أكداساً من التنظير وجيفاً فكرية كثيرة»، وذلك عبر سبيل الدعوة إلى الكفّ عن ترديد المقولات المدرسيّة التي ظهرت منذ ستينات القرن الماضي على غرار (الشعرية، التطريس، العتبات، التبئير، مربع غريماس السيميائي، النص الترابطي...). وهي دعوة غايتها ضرورة الاعتراف بالشخصيّة الثقافية للنص الإبداعي العربي، ومن ثمَّ لا تروم منطلقات الباحث السلّامي هنا معاداة كلّ ما هو آت من الغرب، بل هو يؤكّد الولاء للأصالة المتجذّرة في الجغرافيا الثقافية لموطن النص، وخصوصيّته، من أجل التأسيس لنقد عربي لا يجعل النص الأدبي متغرّباً عن ذاته. وكي لا يبقى النقد الأدبي محصوراً في البحث عن معنى النص، بطريقة تقريرية متعالية محنّطة، يهدف الباحث إلى حفز الناقد، وهو يبحث عن معنى النصّ- أي المعنى الغيري- لأنْ «يصنع معنى ذاتياً، معناه هو، فيتحوّل نقدُه– حينئذ- من خطابٍ عن المقروء إلى خطابٍ مبدعٍ بالمقروء، وتتمرّد معانيه عن نظام القراءة الأرثودكسية التي يُنجزها الطلبةُ لإرضاء أساتذتِهم، ويمحو مسافة النفور بينه وبين الناس». ولكن ما السبيل إلى تحقيق ذلك؟ يُجيب الباحث بأن ذلك ممكن عبر تحرير القراءة، وتفصيل ذلك النظر إلى النقد على اعتباره قراءة، وهي قراءة لنص أدبي لا يكون إلاّ ذات هرميّة يشكّل «نص الواقع قاعدتها، ونصّ الكاتب وسطها، ونصّ القارئ قمّتها» وبين هذه النصوص علاقات تصاعدية في التكوّن وعلاقات تنازلية في التأويل، وهنا يجعل الباحث قارئ النص عنصراً من كتابة ذاك النص، وهو ما سمّاه «أفق القراءة الجذلى، أي القراءة الأدبية» وجعله عنوان الفصل الثاني من كتابه، وقد عرّف الأدبية على أنّها تفاعل بين هذه النصوص من أجل إبراز القيم المتخلّقة منها وفيها. لذلك كانت دعوة الباحث إلى الإقرار بأنّ «النقد مدعو إلى تكثيف جملته كي لا يترهّل فيكون تقريرًا، وإلى تخيّر إيقاعه كي لا يكون فوضى، وما أزمة النقد العربي الراهن إلا أزمة أدبيّة ذات بعد أخلاقي، لأنّ القراءة استثمار النتائج بعد المواجهة بين تلك النصوص الثلاثة المكوّنة للنص الإبداعي. الغاية الثانية من الكتاب وقد ناقشها الباحث في الجزء الثاني منه، هي الإضاءة على النقد العربي الراهن وإظهار وجوه اضطرابه وتهافته من حيثُ صِلتُه بالمقروء وصِلتهُ بالقارئ وصِلتُه بالمناهج الغربية وصِلتُه بالواقع، وصلته بالجوائز النقدية، وصلته بالتهافت على نقد الرواية وإهمال الشعر، وما لهذا من أثر في طبيعة النصّ الأدبيّ الفنية والمضمونية وفي كيفيات حضور الكاتب في مجموعته الاجتماعية. وفي هذا السياق، يؤكّد السلاّمي فقدان الممارسة النقدية العربية شرعيتها الأدبية، لأنّها لا تنهض على وعي نقدي، واصفًا إيّاها «بالممارسة التوفيقيّة المهادنة النمطيّة، وثباتها على «خانة مدرسيّة اجتراريّة متعالمة ومتعالية». منطلقاً في ذلك من أهميّة الاعتراف بأن يكون لكلّ منهج قرائي حاضنته الحضارية لأنّها تمثّل جوهر ذاك الوعي النقدي في صلته بحركة الزمن وبشروط الكتابة النقدية، فما «تجديدُ رؤيةِ الواقع إلا تجديدُ وعيِ الكتابة له». وبما أنّ الباحث، أراد للقارئ أن يكتب خاتمة كتابه، معتبراً «أنّ الخاتمة ليست من أمر كاتب النصّ»، فهذا ما يجعلنا نقرأ في هذا الكتاب، دعوة إلى المجادلة للتخفيف من تعثّر حركة الإبداع النقدية العربيّة، والانتقال بها من تقويل النصوص إلى تأويلها بعيداً من المعيارية الجافّة. وإني لا أملك هنا إلا أن أوجّه الدعوة إلى مناقشة أفكار هذا الكتاب من قبل نقّاد يؤمنون بالتلاقح الفكري وذلك لتأسيس منهج نقدي عربي جديد ينفتح على المناهج الأخرى «انفتاحاً حُرّاً لا يخالطه الرضوخ لإكراه تعاليمها»، ويسعى إلى تجاوزها. فالناقد مدعوّ اليومَ وفق ما يقول السلاّمي «إلى إجراء مراجعة حادّة ومؤلمة، مراجعة ينتصر فيها لكلّ ما هو جديد وحُرّ وإنسانيّ، ويمتلك بها الجرأة على الخروج من قاعات الحَشْر الجامعي وبروتوكولاتها المتعالية على معيش الأفراد والنزول إلى شوارع الكتابة وميادينها الحقيقية حيث حرارةُ الإبداع تُذيب مرارة الواقع، وحيث المعنى يتشكّل جميلاً في الهامش والأطراف بروح تفاؤلية مكتنزِة برغبة في الانتصار على المكرَّسِ المَرْكزيّ بجميع قداساته». * أكاديمية لبنانية.