ترتبط المملكة ومصر بعلاقات خاصة تقوم على ركائز متعددة من أهمها الأخوة ووحدة المصير والمصالح والرؤية وكذلك الشراكة الاستراتيجية. وتمثل القاهرة والرياض أهم قوتين عربيتين تمثلان الدعامة الرئيسة للقضايا الاستراتيجية كافة للأمة العربية. ومهما تحدثنا فلن تكفي السطور أو حتى صفحات الكتب عن بيان خصوصية العلاقة التي تربط البلدين، وهذا ما يفسّر مبادرة المملكة إلى إعلان وقوفها مع مصر شعباً وحكومة في مواجهة الأزمة الخطيرة التي تمر بها. بادرت المملكة إلى هذا الإعلان بكل صراحة عن موقفها في وقت لا تزال أهم عواصم العالم وفي مقدمتها واشنطن تتخذ مواقف حذرة خشية من أن تتطور الأحداث باتجاهات تنعكس سلباً على ما تتخذه من مواقف. المملكة حسمت أمرها من اللحظة الأولى، والسبب في ذلك خصوصية العلاقة التي تجمع المملكة بمصر سواء على مستوى القيادة أو الحكومات أو الشعب. وقد ثمنت مصر للمملكة هذا الموقف الذي يعبِّر عن حرص المملكة على استقرار مصر وأمنها وخشية من أن تتعرض أهم دولة عربية لما يمكن أن تكون له آثار خطيرة على الأمة كلها. لكن وبقراءة هادئة لما تعيشه مدن ومحافظات وقرى مصر كافة من احتجاجات واسعة تصاعدت يوم أمس في مليونية لم يشهد لها الوطن العربي مثيلاً تعبّر عن إصرار متزايد على ضرورة رحيل الرئيس مبارك وعدم القبول بأي حل آخر. وهو مطلب شعبي تشترك فيه وبحسب ما تنقل وسائل الإعلام كافة شرائح الشعب المصري وليس قاصراً على اتجاهات سياسية بعينها؛ فالكبار والشباب وحتى الأطفال والقضاة والعمال ورجال الأعمال وقبلهم الفقراء جميعهم يعلنها بصوت مسموع بأن على الرئيس أن يرحل. وعلى رغم ما أعلنه الرئيس من تعهدات بالإصلاح وتلبية مطالب الشعب وإقالته للحكومة وتعيين نائب للرئيس أقول على رغم ذلك كله فلا يزال المحتجون يصرون على مطلبهم الأول والرئيسي، وهو تخلي مبارك عن السلطة. وكما ظهر في المسيرة المليونية في ميدان التحرير يبدو أن الأمر تحول إلى نوع من التحدي بين المحتجين الذين يزدادون إصراراً على مطلبهم، وبين الرئيس الذي لا يزال يرى ضرورة بقائه للمحافظة على أمن مصر واستقرارها. ولنحسن الظن بالرئيس مبارك فإصراره على الاستمرار في الحكم قد يكون نموذجاً آخر لهذه العلاقة وليس لمقاصد أخرى. ولكن وفي هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها المحروسة وفي ظل التطورات الأخيرة البالغة الحساسية نطرح تساؤلاً عن الدور الأنسب لأشقاء مصر وأصدقائها. إن تحديد هذا الدور يتوقف على تقييمهم لطبيعة العلاقة بين بقاء الرئيس واستقرار النظام وكذلك الدولة. ويظهر لي أن موقفنا كما عبّرنا عنه يرى أن استقرار النظام والدولة مرتبط ببقاء الرئيس، وأن رحيله ستنتج عنه نتائج خطيرة على مصر. هذه تعد قراءة دقيقة للأوضاع الراهنة؟ أقول إن أحداث الأيام الثلاثة الأخيرة تظهر خطأ هذه القراءة، فاستمرار الاحتجاجات وتصاعدها والإصرار على رحيل الرئيس تشير إلى علاقة بداية عكسية بين بقاء الرئيس واستقرار النظام. فإصرار مبارك أصبح يضر حتى معاونيه الذين كان لهم حتى وقت قريب شعبية واحترام كبيران. فهم وبسبب وقوفهم مع الرئيس في تحديه للمطلب الرئيس للمحتجين أصبحوا هدفاً للاحتجاج، وبدأوا يفقدون شعبيتهم بشكل تدريجي، وفي هذا خطورة كبيرة على استقرار النظام كله. هذه القيادات التي كان يعوّل عليها أن تتولى الفترة الانتقالية المرتقبة هل ستملك الرصيد الكافي للقيام بهذا الدور بعد أن أصبحت تتعرض للانتقادات ذاتها الموجهة للرئيس؟ الموقف المطلوب إذاً التمييز بين الرئيس وبين النظام، وهذا يعني أن نقتنع بأن استقرار مصر ونظامها السياسي ممكن حتى لو رحل الرئيس، بل إن استقرار النظام أصبح مشروطاً برحيل الرئيس. الرؤية الموضوعية والمتجردة من العواطف تقول إن الوقت قد حان لأن نبدأ تفكيراً جاداً في الموقف الأنسب من الأزمة. يجب أن يكون همنا هو المحافظة على ما تبقى من النظام السياسي، وقبل ذلك المحافظة على مصر أهم دولة عربية وأكثرها قرباً إلى القلب. وعلى الزعامات العربية القلقة أن تطمئن أن مصر ستبقى قوية حتى بعد ذهاب الرئيس مبارك، بل قد يكون رحيله فاتحة لعودة مصر لدورها القومي الفاعل في مواجهة الأخطار التي تتعرّض لها الأمة العربية كلها، ذلك الدور الذي غيبته أزمة الحكم التي عمقها الفساد المستشري والتي بدأت قبل ال25 من كانون الثاني (يناير) بسنوات طويلة. إن القول برحيل مبارك ليست فيه أي اساءة ولا يعني التخلي عنه، فهذا مطلب عبَّرت عنه الجماهير المصرية في مدن ومحافظات مصر كافة. وكلما تأخر رحيله كلما تناقصت فرص الرئيس في المحافظة على تاريخه وإنجازاته في الذاكرة المصرية. ولنفترض أن الرئيس استطاع احتواء هذه الاحتجاجات واستطاع الصمود وبقي حتى نهاية فترته الرئاسية، يبقى سؤال كبير: كيف سيحكم شعبه بعد كل هذه الاحتجاجات الرافضة له والخراب الذي أصاب مصر والقتلى الذين سقطوا في سبيل تحقيق مطالبهم؟ الحكمة تقول إن الزعيم يمكن أن يحكم شعباً يبطن له الكراهية، ولكنه لا يستطيع حكم شعب أعلن كراهيته بصوت عالٍ مدوٍّ وعلى مسمع ومرأى العالم كله. فهل يدرك الرئيس ذلك؟ إذاً فكما كنا أول من عبَّر له عن تضامننا معه ومع مصر، فعلينا ألا نتأخر في تقديم النصيحة الصادقة له التي تحفظ لمصر أمنها واستقرارها. أخيراً كانت هذه قراءة لأحداث تتحرك بسرعة وتجعل من الصعب الجزم بالقول حتى للمتخصص، ولكنها رؤية أطرحها في إطار السيل الكبير من الآراء والأفكار التي تحاول جاهدة قراءة مشهد صعب جداً. * أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود.