لم يكن يوم الغضب – أو بالأحرى أيام الغضب – سوى التعبير الأمثل عن سنوات الغضب، أو فلنقل عقود الغضب المتراكم فوق صدور المصريين. لكنه في الوقت نفسه لم يكن كأي يوم غضب آخر من الأيام القليلة التي بدأ المصريون يشهدونها على مدى السنوات الخمس الماضية. كلمة السر لفهم ما يحدث هي شباب مصر. لكنهم هذه المرة ليسوا شباب مصر الذين اعتدَوْا على أساتذة الجامعات في تشرين الاول الماضي عندما زار هؤلاء جامعة عين شمس للتوعية بإلغاء حرس الجامعة، وليسوا شباب مصر الذين احترفوا مهنة البلطجة الانتخابية في مواسم الانتخابات وجولات الإعادة بإعادة ترهيب الناخبين وتخويف المرشحين المنتمين الى تيارات سياسية غير مرضي عنها، ولا هم كذلك من أولئك الذين يطلب منهم إنشاء صفحات على «فايسبوك» بغرض الرد على صفحات معارضة وأخرى غاضبة وثالثة ناقمة، لتخرج هذه الصفحات أقرب الى نماذج التسبيح بحمد الحكام في العصور الوسطى. المدقق في كل الصور والمشاهد التي نبعت من أيام الغضب الأخيرة يعرف تماماً أن بطل المشهد المصري هم شباب الطبقة المتوسطة وما حولها. شباب من الجنسين وإن كانت الإناث أقل عدداً ربما، خوفاً من الأسلوب التحرشي الأمني الكلاسيكي المعتاد للتعامل معهن في مثل هذه الأحوال، متعلمون متحضرون وعلى درجة عالية من الثقافة والنظام. ليسوا من تلك النوعية التي تبادر إلى خلع قمصانها عندما يلوح أول عراك في الأفق. وليسوا من النوعية التي تعتمد اعتماداً كلياً على القطع الحديدية في أحزمة البنطال لتهديد من حولهم. هذه النوعية من الشباب غاضبة، ليس فقط بسبب البطالة أو ارتفاع الأسعار أو ضيق ذات اليد أو ارتفاع سقف التطلعات المادية من دون أرضية تسمح بذلك، لكنها غاضبة بسبب الفساد وسوء المعاملة من جانب الشرطة والظلم والتزوير والضحك على الذقون. كثيرون منهم ليسوا متضررين بطريقة مباشرة، فأضرار الفساد لا تصيبهم بشكل مباشر، بل منهم من ينتمي إلى عائلات تمنحهم فرص تعليم ممتازة، ومن ثم فرص عمل مجزية، وبالتالي حياة معقولة جداً تتيح لهم رفاهية الانفصال العاطفي والفطام الاجتماعي عن المشكلات التي تعصف ببقية طبقات المجتمع الكادحة والمطحونة. لكنهم أبوا ان يفعلوا ذلك، ليس فقط تضامناً وتفاعلاً مع من يقطنون تحتهم في الهرم الاجتماعي والاقتصادي، ولكن لشعورهم الوطني بأن مصر تستحق قدراً أكبر من الاحترام والعزة والعدل لأبنائها. يقول سيف علي (22 عاماً) وهو ينتمي الى عائلة ميسورة الحال وطالب في السنة النهائية في جامعة خاصة، إن الشعور بالظلم لا يفرق بين طبقة اجتماعية أو اقتصادية وأخرى: «صحيح أن حجم الضرر الناتج من هذا الشعور يختلف باختلاف الطبقة، لأن الأفقر مادياً غالباً لا تتاح لهم وسائل بديلة للبحث عن العدل كما لا تتوافر لهم على الأغلب جهات يلجأون إليها للبحث عن حقوقهم، إلا أن من يسكت على الظلم الواقع على من حوله سيطاله الظلم نفسه عاجلاً أو آجلاً». سيف وغيره الآلاف من الشباب ممن يشاركون في يوم الغضب الذي تحول إلى أيام غضب، ولدوا وتربوا وكبروا وتعلموا وتخرجوا في جامعاتهم والتحقوا بأعمال أو جلسوا في مقاه انتظاراً لانقشاع غيمة البطالة في ظل عصر واحد ووجوه واحدة. ربما اعتقد البعض أن هذه هي القاعدة، لكن البعض الآخر تعلم وعرف أن التغيير سمة الحياة، وأن الظلم ليس القاعدة، وأن من حق الإنسان أن يحيا حياة على قدر أكبر من الآدمية ويحظي بقدر أكبر من الحقوق التي هي حق وليست منّة أو منحة. وهذا البعض الأخير هو قوام أيام الغضب. هذا البعض ممن حصد إنجازات عصر الإنترنت حظي بفرصة الاطلاع على كل من حوله والاتصال بكل من حوله. فرص المعرفة والعلم والثقافة خارج سياج النظام التعليمي باتت ثرية، وإمكانات الاتصال والتواصل وتبادل الأفكار وتنظيمها باتت متاحة بكبسة زر. وهي كبسة تختلف شكلاً وموضوعاً عن أشكال وأنواع «الكبسات» التي اعتادها المصريون من «كبسة» سياسية تضغط على أنفاسهم لسنوات، أو «كبسة» أمنية تعتقل منهم من تريد، أو «كبسة» اقتصادية تخنقهم وتضعفهم. هذه ال «كبسة» المعلوماتية أتاحت لهم تنظيم اندلاع فعاليات يوم الغضب بشكل مميز. الآلاف كانوا على دراية بأماكن التجمع ونقاط الالتقاء وطرق مواجهة الأمن والتزود بالكمامات وسبل تحديد الاتجاهات، وكذلك طلب النجدة وقت الحاجة. حَفِلَ موقع «تويتر» بالكثير من الاستغاثات وطلب العون، فهذا محمد عبد الفتاح يستغيث «النجدة الغاز يخنقنا»، «نحن محبوسون في مدخل عمارة»، «تعرضت لضرب مبرح»! وأمثلة أخرى كثيرة، كلها أثبتت أن ثورة الغضب لم تكن منظمة عنكبوتياً فقط، بل أن نقل حقيقة أحداثها بعيداً من تغطيات الإعلام الرسمي المكبل والخاص المدجن وتحديد وجهتها ومصيرها يكمن في هذه الأدوات العنكبوتية. تجربة المخرج الشاب عمرو سلامة التي كتبها على «فايسبوك» يوم 27 الجاري، تجربته في يوم 25 «يوم الغضب الرسمي» تحت عنوان «أنا انضربت ليه؟!» جاءت هذه الكلمات: « الغريب إني وقتها (أي عند تعرضه للضرب المبرح في شارع القصر العيني وسط القاهرة) ووسط الحدث وصلت الى مرحلة إني فعلاً مش حاسس تماماً بالضرب، واستشهدت، وبدأت خيالات تراودني عن أهلي بعدها هيحسوا بإيه وعن فيلمي اللي ماكملتش مونتاجه، وعن الصفحة اللي هتتعملي على فايسبوك، و يا ترا هنبقى «كلنا عمرو سلامة»؟ (على غرار صفحة «كلنا خالد سعيد»)، والأهم تصريح وزارة الداخلية اللي هيطلّعوه إني أكيد بلعت الآي فون بتاعي».