يمكن دخول عالم رواية الكاتب الألماني ألبرت أوسترماير»لنز في لبنان» (ترجمة محمد المهذبي، منشورات الجمل 2017) من دون التوقف عند اسم لنز ودلالته الأدبية والتاريخية، والاكتفاء به كشخصية رئيسة في هذه الرواية التي تجمع بينه هو الشاعر الألماني المأزوم نفسياً ووجودياً، وبين لبنان الذي قصده هرباً من مأزقه الشخصي والوجودي وبحثاً عن خلاص في مدينة مثل بيروت يعدّها «مهددة « مثله كما يقول، بل «أكثر خطورة منه». ويمكن أيضاً ولوج عالم الرواية من خلال لعبة التماهي التي نسجها الروائي بين بطله الذي يدعى لنز وبين بطل الكاتب الألماني غيورغ بوشنر (1813-1837) الذي يحمل اسمه نص روائي قصير يبدو غير مكتمل على رغم روعته، واستوحى فيه بوشنر، مأساة الشاعر ميخائيل راينهولد لنز(1751-1792) جاعلاً منه بطلاً سلبياً طبعاً. هذا «البطل» يلجأ عندما يشعر أنه بدأ يواجه الجنون، إلى قس يدعى جان فردريك أوبرلين المقيم في قرية في أعالي جبال الفوج. لكنّ هذا القس والمربي لم ينفع لنز، فهو عجز عن تخطي أزمته الرهيبة في وسط الطبيعة التي لجأ إليها. ومثلما استعان غيورغ بوشنر بهذا الشاعر المأزوم ليكون له بمثابة القرين كي يشفى من أزمته الشخصية كاتباً ذلك النص البديع، يستعين الكاتب ألبرت أوسترماير ب «بطل» بوشنر ليرميه في جحيم لبنان أو بيروت، دافعاً إياه إلى التخلص من أزمته العصابية التي يعانيها والتي جعلته يعيش حالاً كابوسية وهذيانية رهيبة في قلب بيروت. لنز الذي كتب بوشنر قصته استعاده أوسترماير ليكتب قصة أخرى له. لكن لنز أوسترماير يختلف عن لنز بوشنير كثيراً على رغم نقاط الالتقاء بينهما وبعض ملامح الشبه نفسياً ووجودياً. تنتمي رواية «لنز في لبنان» إلى ما يسمى «الأدب الباتولوجي» الذي تنتمي إليه أصلاً قصة بوشنير «لنز» مثلها مثل أعمال رائدة لشعراء وروائيين كبار من أمثال جيرار دو نيرفال خصوصاً في نصه الروائي «أوريليا» أو غي دو موباسان لا سيما في روايته «هورلا» وكذلك رامبو ولوتريامون وهولدرلن وأنطونان أرتو وصموئيل بكيت ووليم بوروز وسواهم... لكنّ أوسترماير عمد إلى تطوير أو تحديث هذا النوع من الأدب القائم على الهذيان والهلسنة البصرية والتداعي الحر والسرد الحلمي والذي يعتمد لغة غريبة ومعقدة، متحررة من نظامها ودلالاتها الثابتة. بل هو أغرق بطله المأزوم والعصابي في صميم العالم الحديث والراهن والأزمات الكثيرة التي يتخبط فيها، غرباً وشرقاً، سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وثقافياً... لكن البطل الذي يقوم بما يشبه «الرحلة إلى الشرق» بغية الشفاء من مرضه والتخلص من الاضطراب الذي يخالجه يجد نفسه في عالم أشد جنوناً وعنفاً... فهو هنا في هذا «الشرق» يواجه مأساة التهجير واللجوء كما عاشها– ويعيشها السوريون- ومأساة الفلسطينيين وأثار الحرب الأهلية اللبنانية المطبوعة في عين المصور اللبناني سمير الذي أصبح صديقه مصادفةً. ويكتشف لنز أيضاً عن كثب معنى الإرهاب المتجلي في أفعال داعش التي كان شاهدها على الشاشات التلفزيونية... مخيمات اللجوء كان لنز قرأ عن الحرب السورية ولم يستوعبها ما يكفي، لكنه في لبنان ومن خلال زيارته مخيمات اللجوء السوري في لبنان اكتشف وجهاً من وجوهها المأسوية، فهو تمكن من الالتحاق بوفد وزير الخارجية الألماني خلال زيارته تلك المخيمات عام 2014 والفضل يعود إلى شاب لبناني يدعى «قصير» عمل دليلاً له وللمصور سمير، دليلاً لهما إلى الصور والحكايات، كما يقول. أما مرافقة الوفد الألماني فلم تكن أصلاً هدف زيارة لنز إلى بيروت بل تمت مصادفة، فهو كشخص، لا يمثل الغرب الذي ينتقده بشدة فاضحاً مساوئه ، بل إن الغرب قد يعني في لا وعيه صورة الأب الذي هرب لنز منه ومن سلطته التي لم يجرؤ على مواجهتها جهاراً (فرانز كافكا)، والذي يبلغه مع صديق له صحافي يدعى جيوف جاء إلى بيروت لإنهاء تحقيق يكتبه، بضرورة العودة إلى البيت، وجوابه هو أنه لن يعود، «لم يبق مجال للعودة» مع أنه يتمثل رمز «الابن الضال». الأب هو الغرب والغرب هو الأب الذي يمثل قيمه، هو الاعتباطية والاستغلال. ويقول في ما يشبه الهذيان: «سينتهي كل شيء بعد قليل يا أبي. أنا جهادي يا أبي، جهادي مثلك ولكن ضدك... الجنة في انتظاري وفي انتظارك الجحيم، جحيمكم الذي أفلتّ أنا منه...». قصد لنز بيروت في الرابع عشر من شباط (فبراير) في الذكرى التاسعة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري وغايته هو الشاعر الذي يعاني أنواعاً من الاضطراب النفسي والاكتئاب، أن يستعيد حياته و «يتطهر» في المعنى الكاثرسيسي من خلال خوض حال من المخاطرة في مدينة «أشد خطورة منه» كما يعبر الراوي فيواجه فيها العنف والجنون، وفيها يحلم ويحب ويتيه وييأس ويصلي ويحتضر... بل إنه يفكر في التوجه إلى بعلبك وقلعتها فيركض بين الهياكل ولا سيما هيكل باخوس. كان لنز تعرف في الطائرة المتوجهة من ألمانيا إلى بيروت إلى سمير الذي كسر عزلته واضطره إلى إقامة صداقة معه أصبحت عميقة وعابرة في آن واحد. يجد لنز في شخص سمير بعضاً من تشابه، فهذا المصور اللبناني العائد من ألمانيا هو فنان وليس مجرد مصور، ولديه هوس ب «مشهديات» الخراب التي أحدثتها الحرب، وما يخفي هذا الخراب من معان. جاء لنز إلى بيروت هرباً من قصة حب معقدة تجمعه بامرأة متزوجة تدعى غريتا، وهو على صداقة أيضاً مع زوجها، ولا ينثني عن كتابة الرسائل إليها، رسائل طويلة حيناً تكاد تصبح مونولوغات جميلة ومؤثرة، وقصيرة حيناً آخر وفق ما يفترض نظام «أس أم أس» في هواتف الموبايل. لكنّ هذا الشاعر العاشق يعيش خلال إقامته في بيروت، حكاية حب أخرى، يتخيلها أو يهذي بها وهي حكاية ليلى والمجنون، ويقصها عليه صوت أنثوي كأنه طالع من أعماق لا وعيه أو ذاته. وهو يميل أصلاً إلى الشعر العربي، قديمه وحديثه، يهوى شعر مجنون ليلى وابن الفارض ومحمود درويش... وفي غمرة هذيانه يتناهى إليه الصوت الأنثوي قائلاً: «اصغِ إلى قلبك يا لنز، ليلى هي حبك يا لنز، وأنت المجنون، أنت المعتوه...». إلا أن ليس الحب وحده ما يهجس به لنز في بيروت. فالخوف مثلاً يضاهي الحب حضوراً وكذلك الموت والجنون والخراب الخارجي والداخلي والشعر والصورة... في إحدى المقاطع الجميلة يتخيل لنز نفسه نرسيس يقف على حافة بئر وينظر إلى صورته في الماء تقول له: «تعال يا لنز، تعال، لقد انتظرتك طويلاً جداً». صورة الذات هذه يغرق فيها لنز شيئاً فشيئاً ولكن ليس حباً بذاته وازدهاء بها بل غرقَ المنتحر الذي لا يجرؤ على الانتحار. وعندما يرمي بنفسه في ماء بحر بيروت بعدما ركض على طول الشاطئ يصرخ: «قلبي صار جليداً، صدري لوح جليد، أنا أغرق...». لكنه لا يلبث أن يصعد إلى سطح الماء متلهفاً إلى الهواء وراح يتنفس ويتنفس. أما هاجس الخوف فيطارده منذ أن يضع قدمه في الطائرة حتى يتوه في بيروت ويبلغ ضاحيتها ويقصد ملاهيها الليلية وصولاً إلى بعلبك التي يتوهم أنه خطف فيها وتعرض لأقصى أحوال الرعب: «استيقظ لنز وسط غرفة مظلمة، لم يستطع رؤية يده أمام عينيه. اخترقته الذكريات عندما ظهر الرجال. مسدسات، صرخات، الحديد يلامس الصدغ...». ويضيف الراوي: «ضغطوه على المقعد الخلفي في السيارة، وضعوا له كيساً على رأسه. السواد مرة أخرى، وحيداً في السواد...». ولعل لنز الذي يسترجع مقاطع من شعر محمود درويش ومنها بيته الشهير «نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً»، يغرق في فكرة الموت شعرياً وفلسفياً ونفسياً وجسدياً. وفي صفحات بديعة يتأمل في الموت الذي كان يفكر به أصلاً باستمرار بعدما أشرف عليه ثلاث مرات في حياته. ويخيل إليه أن توفي بحسب ما يقول الراوي الذي يبدو كأنه متواطئ معه: «أنا ميت، وما زلت أحلم وأرى نفسي كيف أجلس هناك، على أنني ميت». المصور شاهداً وفي موازاة لنز الشاعر الذي يصر دوماً على استرجاع شعراء مثل نوفالس وهلدرلن وغوته والذي يحاول مرة في بيروت كتابة قصيدة فيفشل ويشطبها، يبرز شخص المصور سمير، الذي نجح الكاتب أوسترماير فعلاً في زجه في صميم روايته بصفته شاهداً على خراب بيروت أولاً ثم شاهداً على معنى الصورة وتحولاتها في عصرنا الحديث. فالمصور سمير لا يرى العالم إلا عبر عدسة الكاميرا، بل هو عندما ينظر إلى صور الخرائب في بيروت يشعر أن الحرب لم تنته. ويقول: «أرى ما سيأتي. إنه مكتوب في الصور». ويقول عنه لنز إنه يلتقط الصور قبل الضغط على الزر. ويتطرق إلى مسألة رهيبة سائلاً: «ما الفرق بين النظرة في عدسة الكاميرا ونظرة القناص في منظار البندقية؟». وفي الحصيلة أن القناص والمصور الفوتوغرافي يحتاج كلاهما إلى يد واثقة، يد هادئة مثل يد جراح. وهنا يُطرح سؤال مهم: «هل كان يمكن أن تكون تلك الحروب بلا صور؟». أما سمير فيقول: «أستطيع تصوير الموتى أفضل من أي كان. ما هو ميت إطلاقاً، الحجارة، المباني، الأشياء. سأخلص الميت من كل ما قد يتخفى فيه». لا تتخطى رواية «لنز في لبنان» المئة والخمس والسبعين صفحة، لكنها رواية رهيبة وحافلة بالكثير من الوقائع والتخيلات والتأملات والمونولوغات الرائعة والوجوه والأمكنة... رواية مفتوحة على أنواع شتى من الكتابة، يلتقي فيها السرد والهذيان والشعر والنص المسرحي وكلها تصنع مجتمعة نصاً روائياً فريداً، قائماً على لغة تتميز بإيقاعها المضطرد والمتنامي الذي يرافق الأحوال التي يعيشها لنز خلا خوضه هذه التجربة. اللغة هنا إيقاع يتصاعد، ينبسط، يتوتر، ينفعل، لينقل حقيقة التجربة التي يخوضها لنز في بيروت، لنز الهارب من ذاته بحثاً عنها. نص روائي عنيف، شعري وشفاف، ولا يخلو من بعض التعقيد الذي هو صلب طبيعته. أما الترجمة العربية فحاولت أن تكون أمينة على قوة النص لكنها عجزت في أماكن عدة عن مواكبة هذه القوة فوقعت في القليل من الفراغ.