ليس أمراً جديداً أن تكون طنجة الواقعة في أقصى الشمال الغربي من المغرب مدينة اللقاء بامتياز. غير أن الاكتفاء بهذا التأكيد المتوارث سيحجب عن الرؤية أموراً كثيرة إذ يوحي، في أحسن الأحوال، بنوع أو نوعين من اللقاءات غالباً ما يكونان جغرافيين، لكن الواقع إن هذه المدينة التي تبدو للوهلة الأولى مماثلة لمئات المدن الساحلية تتميز بأن اللقاءات التي تعبّر عنها متعددة الى درجة مدهشة، من اللقاء الأكثر وضوحاً بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي (وهو لقاء يمكن رصده من نافذة الفندق) الى اللقاء بين أوروبا وأفريقيا (إسبانيا قريبة جداً الى درجة انها ترى – من نافذة الفندق أيضاً في أي يوم صحو)، مروراً باللقاء بين الحاضر الأكثر حداثة والماضي الأكثر إيحاء بدءاً من المطار الذي يحمل اسم ابن بطوطة الى بارات ومقاه تجول فيها أشباح صامويل بيكيت وترومان كابوتي وبول بولز وويليام بوروز وغيرهم من كتاب وفنانين غربيين ارتبطت أسماؤهم باسم المدينة إذ اختاروا ان يعيشوا يوماً سحرها وكوزموبوليتها وشرقها (الحقيقي أو المتخيّل). ويعرف كثر بالطبع أن اللائحة يمكن أن تطول وصولاً الى السينما مروراً باللقاءات العرقية واللغوية والأيديولوجية وتلك التي تجمع بين شتى ضروب الحرية – الى درجة حرية قرصنة الأفلام وكل أنواع الماركات العالمية. من هنا لم يكن غريباً ان يستقر، منذ سنوات، الاختيار على طنجة كي يقام فيها سنوياً المهرجان الوطني للسينما المغربية. وهي تلك التظاهرة الفريدة التي تعرض ما تم إنتاجه من أفلام خلال العام المنصرم أمام لجنتي تحكيم تختاران أفلاماً مميزة – في رأيهما - لمنحها مجموعة جوائز نقدية أقل ما يقال عنها إنها مشجعة. هذه الجوائز تقدّم من المركز الوطني للسينما الذي يكون هو نفسه من انتج أو ساهم في إنتاج العدد الأكبر من الأفلام المعروضة ناهيك بأنه هو من ينظم المهرجان. ولعل أول ما يلفت النظر هنا هو أن اللجنتين التحكيميتين اللتين تحكمان بين الأفلام ليستا مؤلفتين من سينمائيين ونقاد مغاربة فقط بل من أهل فكر ومهنة يؤتى بهم من بلدان وقارات عدة. بالنسبة الى نور الدين صايل، الناقد المعروف ورئيس المركز السينمائي المغربي الذي يقف منذ سنوات خلف هذا كله، من المهم ان تشاهد الأفلام من وجهات نظر متنوعة وان يحكم عليها من خارج المنظومة المحلية التي غالباً ما تحمل أهواءها وصراعاتها وتميل الى أن تحكّم بها اختياراتها. ضجيج ما ومع هذا لا يخلو الأمر من سجالات واحتجاجات تشغل أيام المهرجان حتى وإن كان قد لوحظ هذا العام ان الهموم السياسية العربية بدت أكثر طغياناً. ذلك ان «صدف التاريخ» جعلت أحداث تونس ولبنان ومصر تواكب المهرجان لتكشف عمق اهتمام الطبقة السينمائية المغربية بما يدور في البلدان العربية. مهما يكن لا بد أن نقول هنا ان الهم السياسي لم يمنع من احتدام السجال حول الأفلام في شكل زاد من حدته انه إذا كان هناك فرح بالكمّ الإنتاجي السنوي الذي بات يضع المغرب في موقع متقدم بين الدول المنتجة (بما يقارب العشرين فيلماً طويلاً ونحو ضعفها من الأفلام القصيرة سنوياً)، فإن ثمة في المقابل قلقاً عاماً يتعلق بالمستوى الذي يبدو هذا العام في شكل خاص متراجعاً عن أعوام سابقة وعلى الأقل في مجال الأفلام الطويلة حيث لوحظ ان المستوى العام للأفلام القصيرة أتى أرفع بكثير. كان السؤال الحائر أمام ما لا يقلّ عن نصف الأفلام المتسابقة ليس كيف أدخلت الى المسابقة بل كيف أنتجت أصلاً وكيف حدث أن عددها في ازدياد نسبة الى مجموع ما أنتج هذا العام، والأدهى من هذا ان بعض هذه الأفلام («خمم» لعبدالله تكونة و «ميغيس» لجمال بلمجدوب و «الخطاف» لسعيد ناصري) نال تصفيقاً من الجمهور العادي فيما كان أهل السينما والنقاد ينددون به. مهما يكن فإن جواب ناقد مغربي راح يسخر من الأمر كله: إننا في حاجة الى كل شيء كي نصنع عالماً. وهذا صحيح على أية حال. فالمغرب اليوم يريد أن يحقق إنتاجاً سينمائياً متشعباً وحقيقياً بعدما ساهم طليعيو سينمائييه في الحقب السابقة في صنع سينما تنتمي الى الثقافة السينمائية. هؤلاء لهم اليوم مكانهم ومكانتهم غير أن كثراً منهم إذ يتأملون ثلاثة أو أربعة من قدامى السينمائيين المكرمين في حفل الافتتاح يحسّون بشيء من الرعب: يخافون أن يصبحوا بدورهم مكرمين أي متحفيين، وبالتحديد تحت وطأة زحف جيل سينمائي جديد يبدو في بعض الحالات متميزاً. وكذلك تحت وطأة ردود الفعل التي تكون من نصيب مخضرمين إذ يصرون على الاستمرار في تحقيق أفلامهم حتى وإن أوصلهم ذلك الى حافة الفشل. فلسطين والمخضرمون بالنسبة الى الحال الثانية يبرز مثال المخرج المخضرم عبدالله المصباحي الذي على رغم بلوغه التسعين وأمراضه وعدم قدرته على الحركة لا يزال مصرّاً على استكمال طريق سينمائي لم يحقق اي نجاح في أي يوم. وها هو هنا يشارك بفيلم طويل «يعدنا» بأنه فاتحة «ثلاثية» عن فلسطين. هذا الفيلم يحمل عنوان «القدس حي المغاربة» وهو، نظرياً على الأقل، يتطلع الى سرد حكاية حيّ في مدينة القدس كان صلاح الدين أقطعه لمقاتلين أتوا في تلك الأزمان لمشاركته القتال. ويربط الفيلم تلك التسمية بكون المغرب في شخص ملكه رئيساً للجنة القدس في زمننا هذا. كل هذا منطقي وكان في إمكانه ان يصل الى حكاية نزيهة لطيفة حول شخصيات محورية تعود من فلسطين الى المغرب تحت ضغط الأحداث. وهذا موجود في الفيلم الى جانب أطنان من النوايا الطيبة لمخرجه وأطنان من المواقف الوطنية. لكن النتيجة في نهاية الأمر أتت ساعتين مضجرتين من القصّ واللزق ومن الثرثرة ومن المواقف المفتعلة ومشاهد نشرات الأخبار. بين مشاهد لإلقاء الراحل محمود درويش قصائده والدراما العائلية والمجازر الإسرائيلية وكل شيء كل شيء كل شيء ... ما عدا حيّ المغاربة نفسه الذي لم يكن له نصيب من الفيلم سوى عنوانه وبعض الجمل العابرة. طبعاً لا يتوجب لوم المصباحي الذي أمضى حياته وهو يفهم السينما على هذا النحو و... يحب فلسطين ويريد أن يحقق عنها فيلماً، ولكن يمكن التساؤل عما يفعله فيلم كهذا بين أفلام ينتمي معظمها الى أجيال جديدة من السينمائيين وربما الى حداثة سينمائية لا شك في فاعليتها. كما يمكن القول بالتأكيد ان مثل هذا الفيلم، معروضاً هنا، يساهم في صبّ الماء في طاحون الذين يريدون النيل من نور الدين صايل منددين باختياراته. غير أن هذا كله لن يعفينا من الإشارة الى ان هذا الفيلم الديماغوجي – بحسب وصف بعض النقاد له - نال من التصفيق اكثر مما ناله أي فيلم آخر، وبالطبع أكثر كثيراً مما ناله الفيلم الآخر عن فلسطين المشارك بدوره في المسابقة الرسمية. عنوان الفيلم هو «أرضي» ويدور تحديداً حول أرض فلسطين في لغة وثائقية تخرج الى حدّ ما عن المألوف. ذلك ان مخرج الفيلم نبيل عيوش الذي صار منذ سنوات أحد أبرز المخرجين ثم المنتجين في السينما المغربية أراد هنا ان يقدم مساهمة جديدة عن فلسطين. وبالتحديد مساهمة تنتمي الى الزمن الراهن. فأخذ كاميراه وفريق عمله ليشتغل في منطقتين تقعان على جانب وآخر من الحدود بين لبنان وإسرائيل: صوّر في مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان، فلسطينيين يتحدثون عن أوضاعهم الراهنة كما عن ديارهم الفلسطينية السليبة وعن حنينهم، ثم عبر الحدود ليتحدث الى إسرائيليين من أجيال متنوعة ولا سيما من أجيال الشباب طالباً منهم ان يعلقوا على المشاهد التي التقطها للفلسطينيين. وكانت النتيجة مدهشة لأن المشاهد أثّرت بالفعل ولكن ليس الى حد إحداث أي تغيير في الذهنيات. بالنسبة الى الغالبية ليس ثمة مكان في هذا «السرير» إلا لحلم واحد ولئن كان الفريقان يسميان الأرض نفسها باسم واحد مشترك هو «أرضي» – ومن هنا عنوان الفيلم - فإن ياء النسبة في الكلمة تختلف جذرياً بحسب ناطقها. جميل ورائع الصورة من الناحية التقنية فيلم نبيل عيوش هذا، لكنه قاسٍ ومحبط تماماً من الناحية السياسية وهو بالتالي واحد من أصدق الأفلام التي حققت عن فلسطين في الآونة الأخيرة وبالتالي لن يعجب كثراً. هو من السينما التي تفرز متفرجيها ما يجعله النقيض التام وعلى المستويات كافة لفيلم عبدالله المصباحي. الى هذا النوع الذي يفرز متفرجيه تماماً تنتمي أفلام عدة عرضت ولا تزال في المهرجان الذي يختتم أعماله ويوزع جوائزه غداً ولا يزال نصف أفلامه لم يعرض حتى كتابة هذه السطور، ومن أبرز الأفلام التي عرضت فيلم طلال السلهامي الأول «أيام الوهم» الذي سبق عرضه في الدورة الأخيرة لمهرجان مراكش، وفيلم «الجامع» لداوود أولاد سيد. ولن نتوقف عند هذين الفيلمين إذ سنعود إليهما في كتابة مقبلة لدى التقييم النهائي لنتائج المهرجان بعد صدور نتائج مداولات لجنتي التحكيم ولكن نكتفي بالقول إن «أيام الوهم» وفي كل المقاييس فيلم شديد الحداثة ينتمي الى زمن العولمة وينهل – لمرة نادرة في سينمات عربية اعتادت ان تنهل من منابع اخرى غير الفن السابع - ينهل من فن السينما نفسه محاولاً تحقيق فيلم من السينما وعن السينما. كثر لم يلتقطوا هذا البعد الما - بعد - حداثي في الفيلم، ولكن يبدو في المقابل ان لجنة التحكيم التقطته بحيث يتكهن البعض بأنه مفضّلها حتى الآن ينافسه «الوتر الخامس» الكلاسيكي المغرق في جماليته وفي بعده الموسيقي موضوعاً وتركيبية وهو من إخراج الشابة سلمى برقاش وستكون لنا عودة اليه. مع وجود هذه الأفلام الثلاثة وحدها منطقياً حتى اللحظة في تفضيلات المحكمين وجمهور السينمائيين يبدو عمل لجنة التحكيم الخاصة بالأفلام الطويلة أقلّ صعوبة من عمل لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة إذ هنا يبدو المشهد أفضل وبالتالي أكثر تعقيداً وذلك انطلاقاً من ملاحظة تؤكد أن ما عرض من أفلام قصيرة يتميز – وكثيراً أحياناً - عن الطويل المعروض. هذا الأمر سنعود إليه ولا سيما الى بعض الأفلام القصيرة المتميزة مثل فيلم سناء عكرود «اعطني الناي وغنّ» أو فيلم عبدالكريم الدرقاوي «المحاكمة» أو «القرقوبي» لجايس زينون أو حتى «العرائس» لمراد الخودي. كل هذا سنعود إليه وفي الانتظار نركض لنحصل على مكان نجلس فيه وسط الزحام المدهش الذي تعرفه قاعة الندوات يومياً حيث الواقفون أكثر كثيراً من الجالسين وحيث تحتدم النقاشات. فالسينما في المغرب محط سجالات وصخب غالباً ما تتجاوز الأفلام. أوليس في هذا، دليل صحة وانتصار آخر للسينما؟