«يجمع المحللون على أن «انقلاب» وزير الحرب في حكومة نتانياهو الجنرال ايهود باراك على حزبه (العمل)، وتشكيله حزباً جديداً أطلق عليه اسم «عتسمؤوت» (الاستقلال) للبقاء في الحكومة والاستحواذ على أربع وزارات، هو بمثابة المسمار الأخير في نعش هذا الحزب الذي تحولت إشكالاته المتراكمة إلى أزمة بنيوية حادة ذات طبيعة مركبة تنظيمية وهيكلية تجلت بتغيير ستة زعماء للحزب في غضون ثماني سنوات، ومغادرة عدد من رموزه التاريخيين (زعيمه السابق شمعون بيريز وحاييم رامون وداليا ايتسيك)، وانضمام البعض منهم إلى حزب «كاديما»، واعتزال آخرين الحياة السياسية. أما الأهم فهو تراجع التمثيل البرلماني للحزب بعد حصوله على 13 مقعداً في انتخابات الكنيست الأخيرة، ليصبح الحزب الرابع في إسرائيل، على رغم أنه أعرق الأحزاب الإسرائيلية ومؤسس الدولة العبرية التي حكمها لنحو أربعة عقود، ما عنى للكثيرين أن «العمل» الذي استرد جزءاً من قوته في أوائل التسعينات من القرن الماضي، إبان توقيع «اتفاق أوسلو» مع الفلسطينيين، فقد مبرر وجوده بعد تبنّيه الخصخصة الاقتصادية، ومغادرة مواقع «الدفاع اللفظي» عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وإقلاعه عن «التمسك» بتحقيق تسوية سياسية مع الفلسطينيين والعرب تختلف، بقدر ما، عمّا تطرحه أحزاب اليمين. ولأن الحديث عن «حزب العمل» الذي لخّص أمينه العام السابق ايتان كابل إشكاليته بالقول إنه «ضلّ طريقه منذ سنوات، وأن باراك ليس سوى حفّار قبور»، يستدعي بالضرورة التطرق الى ما يسمى «اليسار الإسرائيلي»، كون الحزب «متهماً» باليسارية، لا بل ويصنف على أنه «القطب المركزي» في هذا التيار، فإن ثمة جدلاً واسعاً يدور في الأوساط السياسية الإسرائيلية ووسائل الإعلام حول مآل هذا اليسار ومصيره، في ظل التقدير بأن البرلمانيين القلائل الباقين في «حزب العمل» إما سيطرقون باب حزب «كاديما» الذي بات بعضهم يعتبره ملاذهم الطبيعي، أو سيتجهون الى الاتحاد مع الحزب اليساري الآخر (ميرتس). ويبدو أن هذا الجدل ينتظم حول تقديرين اساسيين، الأول يرجح اختفاء «اليسار الإسرائيلي» كلياً، ليس من المسرح البرلماني وحسب، وإنما أيضاً من الحياة السياسية والاجتماعية، والثاني يكاد يجزم بأن ما حصل يفسح في المجال لظهور «يسار حقيقي» يدرك خطورة الوضع المعقد الذي تخلفه السياسات اليمينية المتشددة حيال مسائل القمع والاستيطان والتهويد والتسوية مع الفلسطينيين على صورة إسرائيل ووضعها في الخارج، كما يدرك حجم مخاطر التوجه المتسارع لتحول النظام السياسي الإسرائيلي إلى نظام فاشي يلاحق المعارضين ومنظمات حقوق الإنسان ويكم الأفواه إلى الحد الذي جعل الكثير من الدول الأوروبية تبدي «قلقاً متزايداً» من التطرف والمسّ بما سمّوه «النظام الديموقراطي» في إسرائيل، وفق ما ذكر موقع «يديعوت أحرنوت» يوم 12/ 1 الجاري. إرهاصات هذه الإمكانية، وفق أصحاب التقدير الثاني، يمكن العثور عليها في تصريحات بعض نواب «حزب العمل» من نمط وزير الجيش السابق عمير بيرتس ودانيال سيمون، وكذلك في محاولات بعض الشخصيات «اليسارية» الإسرائيلية (ابراهام بورغ ودوف حنين وموشيه زار) «فحص» إمكان نشوء حركة يسارية جديدة تحمل اسم «المعسكر الديموقراطي»، واحتمال أن تتحول لاحقاً حزباً رسمياً يخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، وذلك بهدف ما سموه «إعادة الديمقراطية إلى إسرائيل»، وطرح «بديل فكري لأيديولوجية الكراهية» وذلك بعد أن تشوشت الفوارق ما بين معسكري اليمين واليسار، ولا سيما في العامين الأخيرين، وبعد أن تماهى الممثل الأكبر لما يسمى قوى «اليسار» (حزب العمل) مع اليمين المتطرف في ثوابت إستراتيجية عدة تحت مظلة ما يسمى «الإجماع الصهيوني»، من بينها تقديس الجيش، والتمسك بالعلاقات الأميركية - الإسرائيلية كركيزة إستراتيجية، والتشديد على يهودية الدولة، ورفض حق العودة للفلسطينيين، وعدم الانسحاب من القدسالشرقية، وخصوصاً من البلدة القديمة، وعدم الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران العام 1967. بطبيعة الحال، من المبكر الخروج باستنتاجات حيال مستقبل هذا الحراك الذي يبدو أنه سيكون محكوماً برزمة من التعقيدات المتعلقة، ليس فقط بطبيعة الكيان الإسرائيلي ووظيفته، وقوانينه العامة ذات الطابع العنصري الاستئصالي، وتوسع المعسكر الفاشي بعد انزياح الأكثرية المجتمعية والسياسية نحو اليمين العنصري، بشقيه الصهيوني والديني، وإنما كذلك بالوضع الإقليمي - الدولي الرجراج الذي رأى المحلل السياسي، الذي تحظى تحليلاته بتقدير كبير في الحلبة السياسية الإسرائيلية، عكيفا إلدار أن تطوراته المتسارعة، وبالأخص في لبنان الذي يشتعل بالحرائق السياسية الكبيرة هذه الأيام، تشكل الخلفية الحقيقية لتمسك باراك بمنصبه الحكومي، وانقلابه على «حزب العمل»، وذلك بهدف تشكيل مظلة، ذات خلفية عسكرية، لحكومة نتانياهو التي أضحت أكثر يمينية، وبات وزير خارجيتها المتطرف أفيغدور لبيرمان يملك مفتاح الحفاظ على ائتلافها، في حال قررت شن عدوان جديد على لبنان و «حزب الله» الذي تكاثرت التقارير الإسرائيلية حول العدد الكبير من الصواريخ التي في حوزته. ومع ذلك، يمكن المغامرة والتقدير بأن فرص نجاح بعض الشخصيات والنخب في تشكيل بنية تنظيمية وسياسية ل «يسار جديد» يقطع مع الماضي الدموي المفعم بالمتناقضات، ويبلور رؤية تعتمد العلمانية بعيداً من «المظلة الصهيونية» ومما يسمى «الحق التاريخي» لليهود في فلسطين، والذي هو في جوهره «حق ديني». بنية تؤيد الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتقف بحزم ضد «الشوفينية القومية» وتوابعها الملحقة: تأليه القوة ومفهوم «الأمن القومي»، وسوى ذلك من المحددات التي تسم الأنظمة الفاشية. هذه الفرص محكومة بالفشل الأكيد، وذلك ليس بالتوكؤ على معطيات الواقع الراهن التي سبقت الإشارة إلى بعضها فقط، بل وبالاستناد أيضاً إلى التجربة التاريخية لهذا اليسار الذي لم تكن أحزابه «اشتراكية» بالمعنى المتعارف عليه، ولم تتأسس على أرضية اقتصادية واجتماعية لطبقة عمالية محلية، وإنما انتقلت إليها أفكارها من خلال الأوروبيين اليهود الذين كان معظمهم من حملة الأيديولوجيا الاشتراكية، بتنويعاتها المختلفة. وبالتالي، فإن هذه الأيديولوجيا لم تكن وليدة الظروف المجتمعية الجديدة التي نشأت بعد إقامة الدولة. وبعكس المعتمد، لدى الاشتراكيين، من أن الشرائح الدنيا في المجتمع هي الخزان الطبقي لقوى اليسار وخطابها، اتجه «اليسار الإسرائيلي» إلى النخبة الاشكنازية ممثلة بالجامعات والمراتب العليا في الجيش، والتي كانت تبدو في نظر اليهود الشرقيين (السفارديم) الذين يشكلون الطبقة الفقيرة والمسحوقة في المجتمع اليهودي، مؤسسة مغلقة على نفسها، كما هيمن على «الكيبوتزات» واتحاد نقابات العمال «الهستدروت» الذي كان يشكل العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي قبل أن يخف وزنه ويتراجع دوره إلى حدود غير مسبوقة نتيجة هيمنة اقتصاد السوق المعولم في السنوات الأخيرة، وقبل أن تنغمس قياداته في المشاريع المالية، وتتحول إلى رجال أعمال همّهم الرئيس عقد الصفقات ومراكمة رأس المال. أما على المستوى السياسي الذي تحوّل، ومنذ سنوات طويلة، إلى الميدان الوحيد الذي يمكن من خلاله إبراز تمايز اليسار عن اليمين، فقد تمحور طرح هذا التيار حول الاستعداد للتوصل إلى حلول وسط مع العرب، ولكن من دون الوصول إلى حد التسليم بأي من حقوق الشعب الفلسطيني والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، ما أدخل هذا اليسار، وفي القلب منه «حزب العمل»، في أزمة بنيوية ما زالت تفتك بما تبقى من شظاياه.