ثمة تغيرات جوهرية لحقت بالمجتمعات ومست في شكل خاص الأجيال الشابة، بعدما دخلت متغيرات جديدة من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لتكون من الروافد الأساسية في تشكيل عقليتهم. فثورة المعلومات والإنترنت، بالتطبيقات الاجتماعية الجديدة، خلقت ما يشبه المجتمع الواحد العابر للمجتمعات، يتسم بثقافة شبابية جديدة فائقة القدرة على التواصل مع الآخرين مهما كان الاختلاف الثقافي، هو ما بات يستثمر في إبراز قضايا الشباب ومشكلاتهم. وهذا التطور قد مس كلاً من العالم المتقدم والكثير من العالم المتخلف، إلا أنه تبقى هناك الاختلافات ما بين العالمين، فدول الجنوب إذا كانت قد مستها هذه التطورات المجتمعية، فهي لم تترك أثراً على النخبة الحاكمة المصرّة على تبني النهج التسلطي في حكمها منذ منتصف القرن الماضي من دون أن تتأثر، لا بالقيم الديموقراطية في العالم المتقدم ولا حتى بالتطورات التي دخلت على عقلية شبابها بفضل الثورة المعلوماتية، وهو الأمر الذي خلق ما يشبه التناقض في وجود عقليتين داخل المجتمع: عقلية حديثة ممثلة في طليعة الشباب المسلح بكل إمكانات ثورة المعلومات الاتصالية، وعقلية النخبة الحاكمة التي لم تتغير منذ ما يزيد عن الخمسين عاماً في سطوتها وهيمنتها الأمنية. وهذا التناقض الموجود كفيل بأن يولّد الصدام في أي لحظة من اللحظات عندما يحدث استشعار بالظلم من فئة هذا الشباب. فمثلاً ثورة الشباب الإيراني التي أشعلتها نتيجة تزوير الانتخابات الرئاسية في صيف عام 2009 كانت نتيجة لهذا التناقض القائم بين تطلعات الشباب المبنية على الأفكار العصرية وعقلية النخب الحاكمة بأفكارها التسلطية التقليدية. وعلى ما يبدو، بدأت الأمور تسير على الخط نفسه داخل الكثير من المجتمعات العربية. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، في مصر على سبيل المثال، تسيدت المشهد ظاهرة الاحتجاجات السلمية التي خلّفت وراءها كماً كبيراً من الدلالات المرتبطة بتغيرات عقلية الأجيال الجديدة في مواجهة ثبات نخبة الحكم. فلم يكد يمر يوم حتى نشهد إضراباً أو وقفة احتجاجية، ولم يستثن في ذلك، لا الطبقة الوسطى ممثلة في أساتذة الجامعات ولا أصحاب الحرف والمهن ممثلين في سائقي عربات النقل ولا حتى في الفلاحين الذين لا حول لهم ولا قوة فأصبحوا في ساعة الضيق والظلم في موقف احتجاج. وما خلق استمرارية لهذه الاحتجاجات أنها ابتعدت من التوظيف السياسي والديني، فهي لا تنتمي إلى تيارات سياسية ولا في الوقت نفسه تساندها تيارات دينية ومن هنا لم تجد الدولة المدخل المناسب لتشويهها ووقفها... فهؤلاء الناس على حق في مطالبهم. ومن هنا تتنوع الأسباب التي تكمن وراء عملية الإضرابات والاحتجاجات والتي يأتي معظمها في أمور متعلقة بالرزق والظلم، إلا أنها هناك أحداث تبقى قيمتها في دلالتها. فهناك واقعتان مرتبطتان بهذا الواقع حدثتا في كل من مصر وتونس، وقد يبدو عند سرد أحداثهما أنهما أمران طبيعيان، إلا أن رد الفعل والحراك اللذين أحدثتهما الواقعتان يعكسان هذا التناقض ما بين العقليتين (الأجيال الجديدة، نظم الحكم). الواقعة الأولى: مقتل الشاب الاسكندراني خالد سعيد في صيف العام الماضي والذي ما زال سبب موته لغزاً، هل هو مات نتيجة التعذيب أم أنه مات نتيجة ابتلاعه لفافة مخدر، إلى هنا قد يبدو الأمر شيئاً طبيعياً، وإنما الشيء غير الطبيعي فعملية رد الفعل الإعلامي والمجتمعي نتيجة تسريب خبر موته، فهذا الشاب الذي لم يكن له نشاط سياسي بات بطلاً له أنصار يفوقون أنصار من يترشحون للرئاسة الجمهورية، فما تفسير ذلك؟ فعملية التوافق والرفض المجتمعي والنخبوي وحالة التعاطف هذه التي تمت مع هذا الشاب المسكين الذي راح ضحية التعذيب على حد صدق الرواية الثانية، تنم عن أن عمليات التعذيب هذه كثيرة وموجودة وتمارس في شكل منتظم على مرأى من الجميع سواء في شكل رمزي أو معنوي، واذا كانت هذه التصرفات تعكس عقلية النخبة التسلطية في شكلها التقليدي، إلا أنها اصطدمت مع الواقع الجديد الذي يمثله شباب مجتمعات الواقع الافتراضي على الشبكة العنكبوتية الذي يستطيع أن يسخّر هذه الشبكة لفضح أي انتهكاك وفي الوقت نفسه يسخرها للدفاع عن أي ظلم يقع على أحد، وهو ما انعكس في شكل واضح في حالة مقتل خالد سعيد. الواقعة الثانية: موت شاب تونسي نتيجة إشعال النار في نفسه احتجاجاً على محاربة السلطات التنفيذية له في كسب لقمة عيشه، وهو ما كان بمثابة الشرارة التي أشعلت اضطرابات البطالة في تونس مع بداية تباشير هذا العام الجديد وتطورت بها الأحداث في شكل أدى إلى إقالة الحكومة ورئيس الجمهورية وهروبه إلى الخارج في سابقة نادراً ما تحدث في مجتمع عربي. فإذا كانت تونس تصنف في مراحل متقدمة من بين الدول العربية ذات المعيشة المرتفعة والتعليم الذي يكاد يعم كل المجتمع، إلا أن ثورة البطالة الأخيرة أعطت دلالة مهمة أن الحريات ونزاهة الحكم أهم من كل هذه المظاهر الاقتصادية التي بدت للشباب الثائر أنها خادعة. والأمر نفسه ينطبق على الجزائر ذات المداخيل البترولية الكبيرة مع غياب الشفافية وتفشي الفساد الذي أدى إلى انتقال هذه الاحتجاجات إلى شبابها الذي، في هذه الحالات، لا يلام لمطالب مشروعة يطالب بها من الحق في العمل والاعتراض على ارتفاع الأسعار. ومن هنا فالقضية ليست في مقتل شاب على أيدي مخبرين، أو شاب احترق نتيجة البطالة، إنما الإشكالية تكمن في الصدام ما بين عقليتين داخل المجتمع: عقلية الشباب صنيعة العالم الافتراضي وعقلية النظم التسلطية التقليدية التي لم تتغير وتتكيف مع التغيرات الجديدة من حدوث إصلاحات سياسية وتحقيق تنمية حقيقية تنعكس إيجابياتها على هذه الأجيال الجديدة بتطلعاتها الجديدة المشروعة. فهل تدرك النخبة الحاكمة في الكثير من الأقطار العربية أن واقع تطور المجتمعات لا يسير في مصلحتها لاستئثارها بالحكم مدى الحياة في سبيل تغييب حقوق كثيرة لمجتمعاتها من حرية وتنمية وغيرها. فكل يوم جديد هناك الملايين يولدون ومثلهم يدخلون سوق العمل من دون أن تكون الفرصة متاحة ليبدأوا حياة طبيعية. * كاتب مصري