«خذني إلى وطني»، فيلم عباس كيارستمي الأخير، دقائق معدودة 3، 5،4...؟ لا ندري، ولا ندري كذلك متى وأين صوّر هذه الكرة المتدحرجة في أزقة ضيقة وأدراج ملتوية. هي بطلته، طابة في رحلة نزول مستمر. لعله هبوط لكنه فرح، لعله مجرد توهان في مدينة قديمة لكنه حرّ. لقطات ثابتة تنتظر أن تهلّ عليها هذه الكرة التي قررت الفرار وربما التخلي عن مكانها الثابت حيث يضعها صاحبها الصغير بعد انتهاء اللعب كل يوم. ربما أرادت اللعب وحدها من دون توجيهات الآخرين وضرباتهم، التمتع بلحظات حرية منعشة، انطلاق واكتشاف لاتعرفهما مع مالكها... لكنها وبعد تمردها المرح وانطلاقتها العفوية تعيدها يد الصغير إلى مكانها المحدد. لعلها استمتعت بحريتها الموقتة ولعلها تعبت ولعلها انتظرت اليد التي تلتقطها في النهاية لتعيدها حيث يجب أن تكون... ما رغب كيارستمي في قوله؟ أهو مهمّ هذا السؤال التقليدي بعد كل فيلم له، بعد كل فيلم من أفلامه ذات البعد الفلسفي والنفس الشعري والاشتغال الفني؟ ربما كان «أعدني إلى وطني» عنواناً أنسب لآخر فيلم لكيارستمي، الذي رحل في باريس بعد سلسلة من عمليات جراحية في طهرانوباريس انتهت به إلى ترك هذا العالم على حين غرة... هو الذي طالما رفض مغادرة إيران بعد الثورة الإيرانية مفضلاً البقاء في وطنه هو، بيته وحارته وذكرياته. في حين غادر زملاء له إيران، ظلّ في بيته القديم في شمال طهران، بيته الصامد في ظل بنايات عالية باردة، صامدًا كصاحبه في وجه الإغراءات. كيارستمي نأى عن السياسة المباشرة واهتم بالفن وعبره ذهب بعيدًا في أعماق الإنسان كائناً من كان وأينما كان، وتلمس مستويات عالية من الأحاسيس الإنسانية وعلاقة الإنسان بالطبيعة بدلالاتها الوجودية والشعرية بلغة سينمائية وتصويرية تعتمد التأمل والأحاسيس والشعر. شاعر السينما وفيلسوفها، أحد مراجعها الكبار، أفلامه تدعو للتأمل والتفكير، هو الذي قدّم «تعريفاً جديداً للسينما بإخراج أعمال بديعة وفريدة من نوعها أدت إلى تألق الفن الإيراني في الأوساط العالمية»، هو «أحد كبار رواد السينما بتوجهاته الإنسانية والأخلاقية» وهو من «فتح صفحة جديدة للسينما أمام الفنانين الجدد وقام بتنشيط الحركة التجريبية في الفن السابع»، وهو وهو... وهو الذي حقق الفيلم التحفة «أين بيت الصديق». في الرابع من الشهر الحالي مرّ عام على غياب هذا الفنان المعلم، وثلاثون عاماً من الوجود لأجمل ما أبدع. «أين بيت الصديق» عن طفل صغير يبحث عن منزل صديقه الذى يقيم في القرية المجاورة لكى يعيد له دفتره الذي وضعه بالخطأ في حقيبته. حكاية جد بسيطة، لكنها حافلة بالمعاني والرموز ومشغولة بحس شعري قلّ نظيره في السينما. الفيلم مستوحى من أبيات لسُهراب سِبِهري، الشاعر الإيراني: «ستسمع في صفاء الفضاء السيّال، هسيساً «سترى طفلاً «تسلّق سروة شامخة، ليخرج فرخاً «من عش النور «وتسأله: اين بيت الصديق؟ *(«المسافر»، مطبوعات وزارة الثقافة السورية) السينما مسار حياة بأكملها حقق كيارستمي على مدى أربعين عامًا أكثر من ثلاثين فيلماً. رافقه صديقه ومعاونه سيف الله صمديان في التصوير والأسفار خلال عشرين سنة وهاهو اليوم يحقق فيلماً عن الغائب من 77 دقيقة. «76 دقيقة و15 ثانية مع عباس كيارستمي»، لوحة مؤثرة ومتفردة من ذكرياتهما. صمديان مُحرج في الواقع من الفيلم، لم يكن هدفه نشر صور لصديقه وهو أحد أقرب معاونيه. كان حزيناً وسعيدًا معاً كما قال «لأننا نرى كيارستمي هنا فهو صديق عشرين عاماً» والفيلم ثمرة صداقتهما الحميمة وكان تحضيره جد قاس وصعباً عليه. لكن أحمد كيارستمي ابن المخرج الراحل اختاره هو ليقوم بهذا. فيلم كنوع من التكريم طلبه مهرجان البندقية ولم يكن لديهم سوى شهر لتحضيره. المهرجان أعلن عن الفيلم قبل أن يبدأ فيه حتى! «كان ذلك مخاطرة»، كما صرح صمديان لحضور مهرجان السينما الإيرانية مؤخراً في باريس. الفيلم لوحة مبعثرة، نتفات من هنا وهناك، ليس تكريماً لكيارستمي ولكن نوعاً من إبراز مدى حب هذا الشاعر للحياة بل عشقه لها. فالحياة تعلمنا أكثر من أي شيء آخر، هذا ما كان كيارستمي يؤمن به. لاملامح شخصية في الفيلم ولا اقتراب من حميمية الفنان، بل نتفات من هنا وهناك تظهر كيارستمي خلال تصوير أو أثناء تحضير السيناريو وبعض من نقاشات ونزهات في الطبيعة التي عشقها المخرج الراحل، وقراءته الدائمة للشعر وتأثره بشعر نيما يوشيج ...كذلك يبديه الفيلم مع تلامذته في دروسه حول السينما وهو ينبه أحدهم: «لماذا عليك أن تزعج طفلاً من أجل فيلم سيء؟!». ويعود الفيلم مع كيارستمي وهو يزور مواقع تصوير قديمة لبعض أفلامه، البحث عن بطلته الأولى ليكتشف صغيرة باتت شابة وأمكنة لم تتغير... كأنها حلقة يجب أن تكتمل! لقطة «76 د و 15 ثانية» الأولى قادت مسيرته، فيها يبدو كيارستمي وهو يزيل ثلجاً متراكماً على سيارته. وأما المشهد الأخير فجاء كمعجزة ليكمل الحلقة! فيه كيارستمي يجول في حقول الزيتون باحثاً عن تهرانة بطلته في «تحت أشجار الزيتون». مشهد «منحنا إياه عباس ثم رحل» كما قال صمديان. مع بداية كهذه ونهاية كتلك كانت تعبئة «الفراغ» بينهما يسيرة. يحكي صمديان للجمهور عن كيارستمي أكثر مما يبدي في فيلمه، الرجال مثله نادرون، فليس سهلاً في مجتمع قائم على النفاق أن تبدو على حقيقتك وأن تتمتع باستقلالك الفكري، أن تبقى كما أنت لا تخضع للسياسة، وقد فعل كيارستمي. لقد أثّر في مجتمعه بطريقته ولنكون على شاكلته» يجب أن نكون أحراراً في دواخلنا مثله». يثير أيضاً قضية ندم بعض الشباب في إيران على آرائهم القديمة بخصوص كيارستمي واتهامه بأنه غربي التوجه قبل أن يدركوا إنسانيته التي تتجاوز الشرق والغرب والتصنيفات، وحبه للحياة وسعة معارفه التي تشمل الشعر والتصوير والسينما. يلح صمديان على حرجه، كأنه» استغل هذه الصداقة وصنع هذا الفيلم»، حرجه لأن الوقت كان قصيراً جدًا قبل عرض الشريط في مهرجان البندقية، قصير جدًا فالصور والشرائط كثيرة جدًا فأيها الأنسب لتقديم «أفضل صورة عن المعلم»؟ وحين سئل عن التقليد والتاثر والتأثير بين أعمال المخرجين رد بأن كيارستمي كان يقول: «تقليد الآخرين ليس سيئاً على الدوام، بل يمكن له أن يكون حسنًا شرط أن نتقدم خطوة عن هذا الذي قلدناه!».