تحدث أشهر مستثمر أميركي في البورصة الأميركية «وارن بافيت» عن تجربته في عالم الاستثمار، ومن بساطة حكمته قد تظنها مخادعة، ولكنك لو دققت لاقتنعت بفاعليتها وبتطبيقها، يقول بافيت: «بحثت عن تجارة أتصور معها ما ستؤول إليه بعد 10 أو 15 عاماً، فلا أعتقد مثلاً أن الإنترنت يمكن أن يغيّر من نظرة الناس للعلكة»... منطق! فها هي كوكاكولا تربح من مشروبها الغازي منذ أكثر من 100 عام، فإذا كنت قادراً على تخيّل منتجات مماثلة لا تجدك ضحية معها لرياح التغيير المتقلبة، إن استطعت ذلك فقد تكون وارن بافيت العرب، فلا غرابة إذاً إن تمسّك بافيت بالاستثمارات التي استطاع معرفة وجهتها، ليتمكن من تحديد عائدها الاقتصادي على المدى الطويل، فهل تعتقد فرضاً أن الناس سيتوقفون عن الحلاقة؟ أو شراء الحليب؟ أو التأمين على سياراتهم؟ أو تجرع الكولا وشراء العلكة مهما كان الوضع الاقتصادي العام؟ امتلكت مؤسسة «واشنطن بوست» عام 1973، الصحيفة التي عرفت باسمها، ومعها مجلة «نيوزويك»، وأربع شبكات لمحطات تلفزيونية بقيمة 500 مليون دولار، فجاءت سوق الأسهم فقيّمت المؤسسة «على بعضها» بما قيمته 100 مليون دولار فقط، ذلك أن خبراء «وول ستريت»، لم يقع في اعتقادهم ولا قراءتهم أن سهم المؤسسة سيرتفع في العام التالي لشرائه، وهو توقّع صحيح ولكن من منظور قصير الأجل، أما النظرة البعيدة فكانت من نصيب المستثمر الذكي بافيت بشرائه السهم الواحد بقيمة 10 ملايين دولار، ليرتفع بعد 30 عاماً إلى 1.5 بليون دولار، (أكاد أجزم أن ميزتي الصبر والجلد الاستثماريين لا يتمتع بهما كثير من العرب)، فالاستثمار هو امتلاك المشروع ثم تركه ينمو، أما المضاربة فهي رمي حجري النرد في اتجاه قصير المدى لسعر السهم، الأول بإمكانه أن يكسبك، بينما الثاني يعتمد على المصادفة، وللتوضيح يطرح بافيت سؤاله: «ما السهم الذي تود شراءه اليوم وتشعر بالارتياح حتى لو أغلقت سوق الأسهم لمدة 10 سنوات مقبلة؟»، وبامتلاك الجواب جنى بافيت ثروته من مقامرين أفرطوا في بيع مشاريع انخفض معها سعر السهم، ومع ذلك، ومع كل ظهور لتكنولوجيا حديثة، يستعر جنون المضاربة، حدث ذلك مع المذياع والسيارات والطائرات والانترنت، حيث تعكس أسعار الأسهم الإقبال على شرائها، أما بافيت فقد تخطى هذا الاندفاع بترقّب مدهش إلى حين غربلة سعر السهم، فالمستثمر الحكيم في عُرف بافيت من يتغاضى عن الأسهم المرغوب فيها، ويتجنب الهستيريا والمبالغة في ارتفاع أسعارها، فاشترِ أثناء ركود السوق أو عند العزوف عن الشراء، كما حدث عندما اشترى بافيت نصيبه في شركات ديزني وأميركان اكسبرس وكوكاكولا، وللأمانة، هذه النصيحة بالذات لا تصلح مع ثقافة أسواقنا، فقد تخسر الشركة وترفع من الإدراج وتتبخّر نقودك ولا حولك أحد، وليسأل في ذلك مستثمرونا! يعتمد بافيت في كل استثمار جديد على دائرة فهمه وكفاءته، فما لا يكون ضمن استيعابه لا يقترب منه، كشركات التكنولوجيا ونفوره منها، ذلك أن فهمه المسبق يؤهله لتقدير المردود الاقتصادي للمشروع، ولتوقع أدائه مستقبلياً، فإن عجز عن إيجاد نوعية استثماره فكل ما يفعله هو الانتظار، فماذا عن هامش الخطأ؟ يرى بافيت أن من لا يخطئ لا يكون قادراً على اتخاذ القرارات، فارتكاب الأخطاء جزء من عملية اتخاذ القرار، وكل من يجبُن ويتردد ويماطل لا يكون سوى تابع، فوحده من يقرر يستحق أن يقود، ومع ذلك سيعمل التابعون على استبدال القائد بغيره في حال تكررت أخطاؤه، فالأخطاء لها حدود. فماذا عن الطبع الإنساني والحس الأخلاقي؟ يقول بافيت: «من بين أصحاب البلايين الذين عرفتهم، وجدت أن المال يظهر الخصال الحقيقية، فمن كان نذلاً قبل امتلاك المال، فسيظل نذلاً وفي حوزته بلايين الدولارات». [email protected]