الاثنين 17/1/2011: مسألة أسلوب اتصل بي من فرنسا قلقاً على حال لبنان وحالي. لا يزال قلقه مقيماً منذ هرب خلال حرب السنتين، وحين يزور وطنه – وطننا فلأيام معدودات لا يعرف خلالها المشي على الرصيف، تتعثر قدماه بلا سبب. جرثومة القلق اللبناني أصابت الجميع وتصيبهم، فإما أن يمرضوا أو أن يكسبوا مناعة. وتظهر النتيجة في أسلوب العيش خلال الأزمات، إذ يعجل القلق بمرضاه إلى خوف شديد فيلزمون بيوتهم ويعجزون عن العمل ويرون في فصول الأزمة رسائل محبطة، أما الذين اكتسبوا مناعة فهم يحفظون إدراكهم ورؤيتهم الواقعية فيفرحون بقدر ويحزنون بقدر، ويعبرون المراحل الصعبة بأقل الخسائر. إنها مسألة أسلوب يبدو معها العيش في لبنان فناً قائماً بذاته، لا بد أن يتقنه المواطن ليحتمل الإقامة وإلاّ فهو ينضم إلى ملايين المهاجرين الذين غادروا بلاد الأرز بلا عودة منذ أواسط القرن التاسع عشر. اتصل بي من فرنسا قلقاً، فأجبته أن لبنانيين قلة غادروا خوفاً من إقفال المطار، لكن أجانب مقيمين يمارسون حياتهم بقليل من القلق، ربما لأنهم أتقنوا أسلوب العيش اللبناني، وذكّرته بشطر من بيت المتنبي: «على قلق كأنّ الريح تحتي». الثلثاء 18/1/2011: التباس لم ينبت العشب على الجدار، أو أننا قصصناه ليبقى وجه الحجر للعيان، نرسم نافذة وفتاة تطل على الحديقة. لم يهاجر أهل البيت ولم ترطن ابنتهم بالإسبانية في مدينة أرجنتينية حيث تبيع الفساتين الملوّنة لخلاسيات المزارع. لم يترك الأهل بيتهم ولا الشجرة الوحيدة في الحديقة الواسعة، ومن خلف المحيط يلاحظون نموّ الشجرة عالياً حتى خطوط كهرباء التوتر العالي. إنها إقاماتنا الملتبسة: هل البيت خال أم مأهول؟ أنكون هنا مقيمين أم هناك مهاجرين؟ سيبقى الالتباس حتى نصدق أن لبنان حقيقة يجمع عليها أهله وأهل المنطقة والعالم. الأربعاء 19/1/2011: أين ميخائيل نعيمة؟ قبل مئة سنة صدر بالإنكليزية في نيويورك «كتاب خالد» لأمين الريحاني. وستكون المئوية مناسبة لإعادة طبع الكتاب في نصه الأصلي وفي الترجمة التي أنجزها أسعد رزوق (صدرت في بيروت عام 1986 عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»)، كما تنظم ندوات ومحاضرات ومعارض في الولاياتالمتحدةوفرنسا واستراليا ولبنان عن الكتاب ومؤلفه يتحدث فيها أعلام ودارسون. «كتاب خالد» لبنة تأسيسية للأدب العربي – الأميركي، وكان مقدمة لكتابين لاحقين بالإنكليزية أصدرهما، تباعاً، جبران خليل جبران («النبي») وميخائيل نعيمة («مرداد – منارة وميناء»). والكتب الثلاثة أشبه برسائل في مطالع القرن العشرين موجهة إلى قراء الإنكليزية مع عطر الشرق وروحانيته، طغى عليها هاجس التلاقي بين الأديان وترسيخ وحدة المجتمع على قاعدة الحرية والإيمان، هاجس يجد جذوره في الحروب الطائفية التي شهدها لبنان، وطن الريحاني وجبران ونعيمة، والتوق إلى السلام الذي كان يغمر صدور المثقفين في مرحلة الاستبداد العثماني وما أعقبها من فشل بناء دولة حديثة. أشبه بخطب دينية في عهود قديمة حين يتنكب العارفون مسؤولية قيادة الجماعة أو هدايتها، ولكن، ثمة فوارق بين الكتب الثلاثة: «كتاب خالد» يجمع السرد والتأمل والرسائل، فيما «النبي» أقرب إلى خطب شعرية يتخفف من السرد نحو إيجاز موح يقارب المزامير. أما «مرداد» فيبدأ بمقدمة سردية توصل القارئ إلى متن الكتاب الذي هو تأملات وتعاليم غير مباشرة تلامس أسئلة وجودية واجتماعية كانت مطروحة في مطالع القرن العشرين. هناك دراسة واحدة تتضمن عرضاً وتحليلاً للكتب الثلاثة أصدرها سهيل بشروئي في كتاب عنوانه «ثلاثة كتّاب لبنانيين باللغة الإنكليزية» نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، لكن دارسين آخرين في مواضع متفرقة امتدحوا لغة «النبي» المختصرة الموحية واعتبروها سبباً رئيساً لانتشار الكتاب في أوساط النخبة والجمهور، في حين أن «كتاب خالد» و «مرداد» بقيا في إطار النخبة. ولعل كتاب ميخائيل نعيمة هو الأقل حظاً في اهتمام القراء، ربما لإنكليزيته الجامدة ولعربيته الجامدة أيضاً (نقل نعيمة «مرداد» بنفسه إلى اللغة العربية)، لكننا نميل إلى سوء الحظ وحده الذي انسحب على مجمل مؤلفات نعيمة، هذا الأديب المفكر الذي يدخل في الغياب فيما يتجدد حضور معاصرين له يتساوون معه أو هم أقل قيمة معرفية وأدنى إبداعاً. لهذا السبب نستعيد هذه المقاطع من «مرداد» ميخائيل نعيمة: - إنه لعالَم منقسم على ذاته. لأن «أنا» فيكم منقسمة على ذاتها. إنه لعالم سياجات وسدود. لأن «أنا» فيكم مكتظة بالسياجات والسدود. فهي أبداً تسيّج حول ما تحسبه منها لتُبقيَ خارجاً ما تعتقده غريباً عنها. وهي لا تفقه أن ما تحصره داخل السياج لا ينحصر ضمنه بل يخترق سبيله أبداً الى ما وراء السياج. وإن ما وراء السياج لا يبقى وراءه بل يعمل دائماً على الانضمام إلى ما هو داخل السياج. وما ذاك إلا لأنّ الذي داخل السياج والذي خارجه هما توأمان لا ينفصلان لأمّ لا تتجزأ. وتلك الأم هي «أنا». - ولئلا تلهيكم مطالب الجسد عن مشاغل الروح، أبيح لكم أن تعيشوا من إحسان المؤمنين. ومنذ تأسيس «الفلك» شكوتم يوماً قلة الإحسان، فماذا كان منكم؟ لقد حولتم الإحسان إلى لعنة سواء لأنفسكم وللمحسنين. فها أنتم بعطايا الناس تستعبدون الناس. ها أنتم تجلدونهم بسياط تحبكونها من الخيوط التي يغزلونها لكم. وتعرّونهم بعين الأنسجة التي ينسجونها ثياباً لكم. وتميتونهم جوعاً بقوة الخبز الذي يخبزونه لكم. وتبنون لهم سجوناً من الحجارة عينها التي يقطعونها لكم. - إذ ما هو المال؟ إنما المال عرق الناس ودماؤهم يسكها الدهاة دراهمَ ودنانير ليكبّلوا بها الناس. وما هو الغنى؟ إنما الغنى عرق الناس ودماؤهم يختزنها أقلّ الناس عرقاً ونزيفَ دمٍ ليرهقوا بها ظهور من كانوا أكثر الناس عرقاً ونزيفَ دم. الويل ثم الويل للذين يحرقون أفكارهم وقلوبهم وينحرون أيامهم ولياليهم في سبيل خزن المال، فهم لا يعرفون ماذا يخزنون. - التكرار هو سنّة الزمان. فلا بدّ لما حدث مرةً في الزمان من أن يعود فيحدث غير مرّة. أما طول الفترات وقصرها ما بين العودة والعودة فموقوف، فيما اختص بالإنسان، على إرادة كل إنسان وشدّة رغبته في التكرار. فعندما تخرجون من الدورة المدعوّة حياة إلى الدورة المدعوّة موتاً حاملين معكم عطشاً إلى الأرض لمّا يرتوِ وجوعاً لمّا يشبع، حينئذ تعود الأرض فتجذبكم إلى صدرها من جديد. وهكذا تعود الأرض ترضعكم، والزمان يفطمكم حياةً تلو حياة وموتاً بعد موت إلى أن تفطموا أنفسكم الفطام الأخير بملء إرادتكم ومن تلقاء نفوسكم. الخميس 20/1/2011: مثل شارع خال مخيف مثل شارع خال من سيارات وبشر. لو أن الشارع لم يوجد. لو أنه عاد إلى صورته الأولى حقلاً خصباً لرأينا الطبيعة التي تؤنسنا، نباتاً أخضر وزهراً. من بيتي إلى المكتب، أعبر الشوارع وحيداً في مدينة الصمت. البنايات العالية حديثة جداً لم تألف الشمس والهواء ولم يألفاها، فكيف لها أن تكنز ذكريات كانت في أبنية أُزيلت بالحرب أو بإعادة الإعمار. أعبر الشارع وحيداً فأرى ما كان وليس كائناً: دكان الحلاق الواسع عند زاوية حاووز الساعاتية، وفي الزاوية الثانية المستشفى الألماني بأشجاره الغريبة العالية، يتسلقها تلاميذ الكوليج دولاسال الهاربون من دروس الفيزياء. ونزولاً في شارع جورج بيكو حيث بنات مدرسة الإليانس اليهودية، لماذا لا نرى إلا البنات علماً أن المدرسة مختلطة؟ وإلى اليسار بيت الكتائب في الطابق الثالث لأن رواده قلة: من يهتم بمبادئ صلبة في مدينة مفتوحة على رياح الدنيا؟ وصعوداً إلى باب ادريس حيث محال سوق الإفرنج تبيع ليموناً لا يشبه ليمون الأحياء الأخرى، ومحال ثياب لا ترى زبائنها وتستمر في العمل، لا تدري كيف. ووصولاً إلى ساحة النجمة وشارع المعرض حيث كل الطبقات يأتي إليهم كل النواب، يدخلون إلى البرلمان غير آبهين بشعب يفيض عن الأرصفة.