ما انفكّ العلماء والباحثون عن ثنائية «الأخلاق والسياسة» يتوقفون عن سؤال العلاقة بينهما، وهي علاقة شغلت الكثير من الباحثين والمفكرين وفقهاء الإسلام وفلاسفته، وجعلتهم أحياناً يرفعون البحث إلى سؤال آخر عن جدوى قيام الدولة، وعن غاية السياسة وهدفها، وطبيعة تدبير شؤون الناس والمدينة. فقهاء الإسلام لم يخرجوا أمر السياسة عن معناها اللغوي من «ساس الرعية يسوس» كما يرى الرازي في مختاره، أو ما يضيفه ابن منظور لهذا المعنى في لسانه فيقول: «وهي القيام على الشيء بما يصلحه، أو الفعل الذي يقوم به السائس»، أما محمد علي الفاروقي التهاوني (توفي:1158ه/1754م) فيرى في كتابه «كشاف اصطلاحات الفنون»، أن السياسة تعني أن الحاكم مدفوع إلى» استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة». ولم تغب مفردة السياسة عن دنيا الشعر العربي وتراث العرب المنقول. يذكر ابن عبد ربه في «العقد الفريد» أن الوليد بن عبد الملك سأل أباه: ما السياسة؟ قال: «هي هيبة الخاصة مع صدق مودتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع». ويرى البعض أن لفظ السياسة جاء من أصل مغولي من كلمة «ياسا» التي كانت تدل على رسم يدفع عند النكاح، وقد أدخله الأكراد في ما بعد للثقافة العربية. أما من حيث الاستعمال فقد استعمل اللفظ في أوله على ثلاثة معاني أولية: للدلالة على حسن تدبير الدولة، وللدلالة على فن مستقل موضوعه الحفاظ على الدولة، والمعنى الثالث استعمله ابن خلدون والفقيه ابن الطقطقي الشهير بابن طباطبا بمعنى: «أن السياسة فن للحكم». واستخدم المصطلح عند ابن طباطبا لوصف الأفعال الخارجة على نطاق الشريعة، ولكنه يبدو لافتاً في إخراجه السياسة عن كونها سوق الناس بحسب مقتضى الشريعة، أي من سياسة شرعية، إلى كونها معاملة للطبائع والأمزجة والرتب الاجتماعية فيقول: «ولكل صنف من الرعية سياسة، فالأفاضل يساسون بمكارم الأخلاق والإرشاد اللطيف، والأوساط يساسون بالرغبة الممزوجة بالرهبة والعوام يساسون بالرهبة...». هذا التفريق الذي أخذ السياسة إلى حالة مدنية عنوانها إدارة الخلق في الحكم أشار إليه ابن خلدون مستدركاً حتى لا يخرج المعنى إلى مقصد آخر ومفرقاً بين نوعين من السياسية، وهما: السياسة المدنية أو المدينة الفاضلة، ويعبر عنها بالقول: «وهي نادرة وبعيدة الوقوع»، وهناك السياسة العقلية وهي على وجهين، ففي الوجه الأول تراعى مصالح العموم ومصالح السلطان في استقامة الملك، ومثلها سياسة الفرس، ويرى ابن خلدون أن الله أغنى المسلمين عوضاً عنها بما يماثلها وهو الخلافة، وأما الوجه الثاني فهو «أن تراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له المُلك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً، وهذه السياسة التي يُحمل عليها أهل الاجتماع... إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة بحسب جهدهم». وينتهي ابن خلدون إلى أن الخلافة «إنما هي دين وليست من السياسة الملكية في شيء». الفقهاء لم يعنوا بإيجاد نظام سياسي، أو لم ينجحوا في تحقيق ذلك، لكن السياسة عندهم شرعية في الجوهر، وهي لتطبيق الأحكام، ومع ذلك ثمة رأيان، قول يمثله أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي بقوله إن «السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي... ما لم يخالف ما نطق به الوحي»، ورأي آخر يحصر السياسة ومعنها على باب الغلظة في تطبيق الحدود والجنايات، وهو ما يجعلها أحيانًا مرادفة للتعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، يقول علاء الدين الطرابلسي الحنفي: «السياسة شرع مغلظ.» ونقل ابن عابدين الحنفي: «أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره... ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد». وبذلك تصبح السياسة فعلاً من الحاكم على أمر أو تصرف أو جناية أو لأجل فرض عقوبة. ليست الغاية هنا إحداث مقاربة بين مفاهيم حسمت، لكن السؤال عن الأخلاق والتدابير البشرية المدنية في الحكم، يبدو أنه ظلّ ماثلاً، وفي هذا الإطار نظر الفلاسفة المسلمون إلى التدبير المدني للمدينة على أنه صورة مصغرة من التدبير الإلهي للكون، وعقدوا مقارنة بين المجالين، كما عقدوا مقارنة أخرى بين نظام المدينة وطبقاتها، مع النفس الإنسانية وقواها، ووصلوا من ذلك إلى وجود قانون كلي عام دائم وثابت يحكم الكون والمدينة والنفس؛ فالنظام السياسي في المدينة له قانون كلي، إذا التزمته أي مدينة صارت مدينة فاضلة، كاملة وعادلة. وهو ما تراه الباحثة منى أحمد أبو زيد في دراستها عن المصطلح المدني عند الفارابي والفلسفة الإسلامية. بيد أن الفارابي (ت339ه/951م) ليس هو الرائد الأول الذي انبرى للكتابة عن السياسة والأخلاق في الفلسفة الإسلامية؛ إذ إن الكندي (ت252ه/866م) هو أول من قام بهذا العمل، وألَّف إحدى عشرة رسالة في السياسة والأخلاق، وجاء بعده أحمد بن الطيب السرخسي (ت286ه/899م) صاحب كتابي «الحسبة الصغرى» و «الحسبة الكبرى». ويشار أيضاً إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي (توفي 322ه/934م) الذي وضع مؤلفات عدة منها «السياسة الصغير»، و «السياسة الكبير»، وهناك أبي الحسن العامري (ت381ه/991م) الذي لخص محاورة الجمهورية لأفلاطون في كتابه «السعادة والإسعاد». لم ينقطع البحث عن رابط العلاقة بين السياسة والأخلاق وتدبير المدن بعد الفارابي، وقد بلغ البحث ذروته مع ابن سينا (ت428ه/1037م)، وبلغ خاتمة مجده مع ابن رشد(ت:595ه/1199م) الذي توقف كثيراً أيضاً عند الأخلاق والسياسة، وقسم السياسة إلى قسم علمي وآخر عملي، الأول يقف على الأخلاق، والثاني يشرف على تدابير المدينة، وبذلك تصبح السياسة هي الجانب الاجتماعي للأخلاق. لكن جل أعمال المسلمين لم تسمح بتأسيس نظام سلطوني عقلاني، ذلك انها لم تنتهِ إلى مساءلة السلطة أو تسهم في تشكلها. ولعل هذا البقاء لأفكار البحث والجدل في السياسة والأخلاق كان طبيعياً، وهو يعود إلى مصدرين أساسيين: الأول وهو الدين بقيمه وأخلاقه وأحكامه، وقد حمل الدين الإسلامي أهمية كبرى للأخلاق واعتبر متمماً لمكارمها، والمصدر الثاني التراث الفلسفي اليوناني الذي حضر عند العرب بشكل لافت وكانوا معجبين به، ومعلوم أن الفلسفة اليونانية عنت بالأخلاق، وكانت الفضيلة محور فلسفة سقراط القائل: إن المعرفة فضيلة والجهل رذيلة، مروراً بحوارات افلاطون التي دار معظمها على فكرة أخلاقية أو سياسية، وصولاً إلى أرسطو الذي عدّ كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس» مقدمة لكتاب السياسة. في الزمن القريب، كان الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي يردد: «إن الشر لا يقتل الشر، كما النار لا تطفئ النار»، ذلك أن خبايا الفعل السياسي لا تموت بل تظل حاضرة ومرهونة بعودة الاستخدام في حال كانت الأخلاق مغيبة. وأي فعل مقاومة لا بدّ له من نظرية أخلاقية. وجورج أوريل تساءل أيضاً في روايته ذات العنوان «1984»، عن الغاية من السلطة والسياسة قائلاً: «هل السلطة غايتها هي قيادة الناس لما فيه صالح حالهم، أم هي السلطة ذاتها؟». الفيلسوف كانط له رأي أيضاً، بأن السياسة لا يمكنها اللمعان إذا لم تحترم الأخلاق وتكرمها أمام الحق، أو بلغته: «السياسة الحقيقية هي التي تحترم الأخلاق وتخضع أمام الحق.» وهنا يضع كانط ثلاثية الحق والأخلاق والسياسة في مستوى واحد، مع أنه يدرك أن السياسة هي شكل إدارة الدولة للناس، والأخلاق هي المبادئ الموجهة للعقل والإرادة. عند توماس هوبز بدا الأمر مختلفاً، بالربط بين السياسة والقوانين الطبيعية، واللذة، فالسياسة عنده تقوم على مذهبي الأنانية واللذة تمامًا. فالناس يسلكون ويجب أن يسلكوا وفقًا لمصالحهم الخاصة فحسب. وفي حين أراد الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا القول بأن الحق هو «الحرية التي للشخص تكمن في أن يوجد ويتصرف وفقاً للعقل» وهو ما يقود المجتمع لحكم ديموقراطي، ولذلك قال في كتابة «رسالة في اللاهوت والسياسة» عن العقل وأهميته:» إن الغاية من الدولة هي الحرية الملتزمة بأوامر العقل وإملاءاته»، لذلك كان سبينوزا يفضل النظام الديموقراطي الذي يقوم على مبدأ احترام الحرية والعقل. صحيح أن النظرية السياسية تأثرت بالتجارب، فيما الأخلاق تأثرت بالنتائج الظاهراتية، وصحيح أن الأخلاق غرقت في متاهة المثالية، إلا أن السياسة وقعت أيضاً في فخ اللاأخلاق، وهنا يحضر سلوك أدولف هتلر الذي كان يخفي تحت وسادته كتاب «الأمير» لميكافيلي لينام هانئاً مرتاحاً فوق وصيته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة». وتحت ذلك الشعار مارس هتلر أبشع الجرائم. لكن في العالم العربي اختلف الأمر، فقد ورث العرب نموذج الدولة التسلطية وهو ما تحدث عنه المفكر المغربي عبدالله العروي في كتابه مفهوم الدولة، حين بين أن دولة الحق هي «اجتماع وأخلاق، قوة وإقناع» حيث يجب أن تتمسك بأخلاقية الدولة واجتماعيتها كشرطين لتهذيبها وإلا كانت الدولة متوحشة. صحيح أن ابن سينا خلص كما خلص اليونان والفارابي من قبله، إلى أن اجتماع الإنسان وعقد المدن هو ضرورة لزمت من عدم إمكان عيش الإنسان منفرداً، لكن المشكلة لم تكن في إقامة الدولة عربياً، في ضمان العيش وفي إداراة البشر وفق قانون الأخلاق الفاضلة الذي ظل عصياً على المجيء والحضور في الثقافة العربية، والذي أحل الدولة إلى صورة غنائمية صرفة.