في اهتمامه بأدب السجون في أوروبا الشرقية خلال حكم الانظمة الشمولية، وجد هارول سيغر، أستاذ الدراسات السلافية في جامعة كولومبيا -الولاياتالمتحدة، في حال الشاعر الالباني فيسار جيتي ما شدّه أكثر الى «الخصوصية الألبانية» في هذا المجال. رافق الكشف عن العمل الجديد لسيغر في الصحافة الالبانية افتتاح معرض الكتاب في تيرانا خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، الذي عُرض فيه الإصدار الجديد للشاعر والكاتب القصصي فيسار جيتي «معبد تحت الارض أو الأدب المدان». استُقبل هذا الاصدار باهتمام ونفد بسرعة خلال أسابيع، ما دفع بالناشر الى إصدار طبعة ثانية، لما للمؤلف من تجربة مرّة وغنية تبرز «الخصوصية الالبانية» في هذا المجال. جيتي ولد عام 1952 في مدينة دورس الساحلية، وأنهى دراساته في اللغة والادب في مدينة شكودرا العريقة في الشمال (مركز الثقافة الكاثوليكية في ألبانيا)، ثم انتقل مبكراً إلى التعليم والانشغال بالادب. بدأ في 1972 بنشر أولى قصائده في المجلات الثقافية، أي حين كانت ألبانيا تخرج من «الثورة الثقافية» على النمط الصيني (حين كانت ألبانيا الحليفة الوحيدة للصين في أوروبا الشرقية)، الى نوع من التحرر من الدوغمائية القاسية، ففي ذلك الحين بدأ جيتي بإعداد ديوانه الاول «ملحمة حياة الزنبق»، ولكن حرّاس الأيديولوجيا تنبهوا مبكرين الى هذا «التحرر»، فشنّت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الالباني في 1973 حملة عنيفة ل «تطهير» الادب من «الموثرات الاجنبية»، التي كانت توصف ب « الغريبة» و «الرجعية» و «المنحطة»... إلخ. في ذلك الحين انتقل جيتي من التعليم للعمل في دار النشر الكبرى «نعيم فراشري»، التي أصبحت ضحية للحملة الجديدة التي طالت أسماء معروفة في مجال الادب. وفي هذا السياق كان لا بد لحرّاس الأيديولوجيا في الحزب أن يدفعوا حرّاس «الواقعية الاشتراكية» في المجتمع إلى أن يقوموا ب «تعرية» و «إدانة» كل «المنحرفين» في مجال الادب، لكي يمهد ذلك لتقديمهم الى المحاكمة وإرسالهم الى السجون. وهكذا، تحت الضغوط المختلفة، وافق زملاء جيتي من الكتّاب والمحررين والمترجمين العاملين في دار النشر «نعيم فراشري» على كتابة تقرير يثبت «الانحراف» الفكري والادبي لجيتا في 1979. وفي التقرير، الذي يوضّح الآن أي حال كنا نعيشها في تلك الايام، يرد: «ان هذا الكاتب قد استمرّ بوعي في المضي تحت تأثير الشعر الغريب على مجتمعنا، والمليء بمعرفة سياسية خاطئة منحطة، والمتأثر بشكل واضح بالشعر الحديث الرجعي»، وإنه « بأشعاره التي كان يحملها الى هيئة التحرير بهذه المفاهيم إنما يثبت أنه كان يمضي بقناعة في الدرب السياسي والفني الخاطئ»، وأنه « بتقليده السيئ للأدب الرجعي، حاول أن يغرس السموم في حقلنا الادبي الطاهر وأن يفسد بذلك مناخنا الادبي»... إلخ. ومن الطبيعي مع هكذا اتهامات لشاعر شاب لم يكن عُرف بعد خارج ألبانيا، أن يكون التعامل معه سريعاً وعنيفاً، في الوقت الذي كانت فيه ألبانيا الخوجوية تعيش في عزلة كاملة عن العالم. وهكذا اعتقل جيتي في تشرين الثاني 1989 وحكم عليه في نيسان 1980 بالسجن لمدة 13 سنة. أمضى جيتي السنوات اللاحقة في أسوأ سجنين في ألبانيا ( سجن سباتش وسجن تشاف باري) الى أن أطلق سراحه في 1987 لكي يوجَّه للعمل في معمل للآجر ( الطوب الأحمر) في مدينة لوشنيا. وقد بقي هناك تحت الحراسة الى أن انهار النظام الشمولي في 1991، فانتقل الى البرلمان الديموقراطي الجديد في 1992 نائباً مستقلاًّ، ثم عُين ملحقاً ثقافياً في السفارة الالبانية في روما. في غضون ذلك كان جيتي يسترد ذاته الإبداعية التي اختزنها طيلة سنوات السجن. صحيح انه كان ممنوعاً هناك من الورق والقلم، ولكنه نجح في لعبة ابداعية جديدة تقوم على إبداع القصائد واختزانها في الذاكرة الى أن خرج من السجن وتمتع أخيراً بنعمة الورق والقلم. ففي 1993 أصدر مجموعته الشعرية «ذاكرة الهواء» التي ألحقها في 1994 بمجموعة تتضمن 110 قصائد «كتبها» بذاكرته في السجن خلال 1979-1987. وبعد مجموعات شعرية، نشر مجموعتين قصصيتين «قدم داود» (1996) و «حقيبة الاساطير المشروخة» (1997). ومع أن أشعاره وقصصه ترتبط بشكل حميمي بتجربة السجن المريرة التي ارتبطت بتطرف غير مسبوق في فهم «الواقعية الاشتراكية»، إلا أن جيتي في كتابه الجديد يخوض تجربة جديدة في الكتابة تجمع بين الذاتي والموضوعي، وبين المحلي/ الالباني والعالمي، ففي هذا الكتاب لم يقف جيتي عند تجربته الشخصية وحدود بلاده الصغيرة (ألبانيا)، بل انطلق نحو أوروبا والعالم ليتساءل عن جذور العنف ضد الكتاب والكتّاب، وعن إحراق الكتب وإعدام الكتّاب، الذي يجمع ما بين الدكتاتوريات اليمينية والدكتاتوريات اليسارية. ومع استنتاجه بأن «الشيوعية أصبحت ديانة بشكلٍ ما، يصل الى ان السلطات الدينية والسلطات الشيوعية تشترك في الموقف وفي التصرف تجاه كل ما يتعارض معها. ومن هنا يصل جيتي الى مصطلح «الأدب المدان»، الذي يُدان من قبل السلطات الدينية والشيوعية لاجل الفكرة أو الرسالة التي يحملها والتي تتعارض مع «الثوابت». ولاجل ذلك، يطرح جيتي هنا مصطلح «الواقعية المدانة»، ليقابل به «الواقعية الاشتراكية» التي كانت أداة الأيديولوجية الشمولية، ففي «الوقعية الاشتراكية» كان على الكاتب أن يرى الواقع من خلال الأيديولوجية التي تصوره على اعتبار ما سيكون، بينما الواقعية الحقيقية، التي ترى الواقع على ما هو عليه بحلوه ومرّه، تُدان ويعاقب صاحبها بالسجن، وتتحول الى نوع من «الواقعية المدانة» التي تجعل حاملها «عدو الشعب» حسب القاموس الرسمي. تجربة جيتي الإبداعية وبخاصة قصائد السجن ال 110، تستحق أن تترجم الى العربية للتعرّف على «الواقعية المدانة»، ضحية «الواقعية الاشتراكية» في القرن العشرين.