لم يكن يعتقد أن. لم يتصوّر. لم يتخيّل. لم يخطر بباله. لم يطارده كابوس. كانت الأيام تكرج هانئة. والتقارير تنام مطمئنة في الأدراج. يأتي الحاكم ليقيم. والدستور موظف يدمن الانحناء. لم ترتفع سبابة. وحده العمر كان يقاوم ويهاجم. لا يخرج الحاكم من القصر إلا الى القبر. لا يخرج إلا الى التاريخ ملفوفاً بعلم البلاد. كذبت التقارير. لم تقل ان الشعب غدّار. مَن خدع الرئيس؟ مَن يخدع الرئيس؟ كانت نشرة الأخبار تُفتتح بابتسامته. والتلفزيون يؤكد ان الشعب سعيد. والسياح يأتون ويذهبون. والدوائر الرسمية تفاخر بأعدادهم. وتنشر إحصاءات عن جهود التنمية. وانحسار الأمية. وعن جزيرة استقرار في بحر مضطرب. كان مدير الاستخبارات يقول إن الأمن ممسوك ومضمون. وكان مدير الأمن العام يعزف لحناً مشابهاً. وتحيات الجنرالات صارمة وتفوح منها رائحة الولاء القاطع. وكان الوزير الأول يمتدح حكمة الرئيس. ومقالات تُكتب عن بُعد نظره. والوزراء يتوافدون مع ملفاتهم ومباخرهم. ولم تكن التقارير تتحدث إلا عن حفنة متعصبين. وحفنة حاقدين. وحفنة مثقفين لوَّثتهم أوبئة الديموقراطية وحقوق الإنسان. وكانت الأصابع الخارجية شديدة الوضوح. يغمض عينيه. يكون لقبك فخامة الرئيس. يمطرونك بالإشادات والقصائد والورد. فجأة تصبح الرئيس السابق. الرئيس المخلوع. كان طموحهم ان يقتربوا من ثيابك. وأن يحظوا بمصافحة أو ابتسامة. أو تلويحة يد. فجأة يستقيلون منك. ومن عهدك المديد. من «التحوّل» وإنجازاته. ينزلون الصور كأنها تهمة. وينهالون عليها. ويفتحون الدفاتر. دفاتر الحاكم. والعائلة. والبطانة. رضا الحاكم خيرات ومسرات. لا أحد يريد إثارة قلقه. علامات الاستفهام ممنوعة. التشكيك محظور. الغموض مؤذٍ. لا أحد يريد إزعاج صاحب القرار. أو تكدير مزاجه. لا يحب الحاكم كلام القلقين والمحبطين. لهذا تُدبّج التقارير بالبخور ورائحة الياسمين. بالكلام القاطع لعيون الأمن. لا أحد يريد إغضاب الحاكم. وهكذا يتحول وحيداً في القصر. ينام على حرير التقارير. يبتعد عن نبض الناس. يصدّق نشرة الأخبار. والانتخابات المطبوخة في وزارة الداخلية. والخطب التي تتحدث عن الإنجازات والتحولات. لا أحد يحتمل غضب الحاكم. الحاكم يخترعك. يعلّيك. يكرّسك. يعيرك من هيبته. ومن حسناته. وساعة يغضب يلغيك. تخسر منصبك وأصدقاءك. يتوقف هاتفك عن الرنين. وأحياناً يصيبك ما هو أدهى. يغمض عينيه. ما سر هذه النار التي اشتعلت فجأة وانتشرت؟ هل صحيح انها البطالة والفقر والفساد وغياب الحريات وانسداد الأفق؟ وهل صحيح ان ثورة الاتصالات باتت تحرم الحاكم من حق الدفاع عن حكمه؟ وتحرم الجيش من الخوض في دم المتظاهرين؟ وهل صحيح ان الشاشات ذكَّرت الناس بقوتهم وحقهم في الغضب والتغيير وطي صفحة وفتح أخرى؟ هل استنزف العهد المديد أوراق الجاذبية والقوة؟ وهل صحيح أن ثقباً صغيراً يقتل الحكم القائم على الهيبة ومنع السبابات من الارتفاع؟ سمع زين العابدين بن علي قائد الطائرة يقول: «الرجاء ربط الأحزمة». ابتسم. هذا النداء لم يعد يعنيه. يتأخر الحاكم في ربط الأحزمة. تذكَّرَ طمأنينة المستشارين. نظر الى ساعته. لم يقل المستشار إن الشعب غدّار.