يحدّق من طرف عينيه باستهزاء وهو يقذف من فمه قشور المكسرات، ساخراً من سخط المتظاهرين أمام كنيسة المسرّة في شبرا. الى جانبه زملاؤه العسكر تشي عيونهم بكثير من التعب. على الطرف الآخر، شبان يحملون صلباناً وينشدون ترانيم دينية فيما آخرون يهتفون من بين الهتافات «اسمع اسمع يا مبارك، الإرهاب انت لي زرعته، ذليت الشعب وجوعته» بأصواتهم المدوّية. يقتطع وضوح مشهد «الجبهتين» أي أمن الدولة والمتظاهرين مناداة شاب اسمه عمر من قبل أحد المتظاهرين، فيقابله متظاهر جبينه محجوب برسمة صليب، «مش ناقص بقى غير مسلمين يخشوا مظاهراتنا». تتدخّل امرأة شاركت في أحداث العمرانية تحمل صليباً هي الأخرى الى جانب أفكار اكثر انفتاحاً. واجهته مع باقي المتظاهرين رافضةً التعليقات الطائفية، فيما رد عليه عمر بكلام هادئ ذي نفحة يسارية، انتهى باعتذار وعناق ثم بهتاف «شعب واحد، دم واحد، نفس القهر ونفس الذل». أما العسكري، فبقي يقذف قشور المكسرات بنظرة الاستهزاء نفسها التي تفلت من طرف عينيه، لكنه تحرك خطوةً الى الأمام مع بقية العسكريين، لمحاصرة المتظاهرين الذين لم يتعدَّ عددهم المئة. لا أحد يدخل ولا أحد يخرج من دائرة العسكر. كان ذلك بعد ساعة من بدء الاعتصام. ردّ المتظاهرون ب «أمن الدولة علينا كتير، كنتو فين وقت التفجير؟!». يتقدم صاحب النظرة الساخرة خطوة أخرى مضاعفاً الخناق على المتظاهرين. فما كان إلا أن فقد بعضهم، من الضفة الأخرى، أعصابه وفي شكل عفويّ حاولوا كسر الحصار، فجاء من بين المتظاهرين أنفسهم من يعتذر من الأمن ويواجه رفاق «جبهته»، داعياً إياهم الى الصبر والهدوء. لكن بعد أربع ساعات من هذا الوضع، ضاق الخناق. منهم من أغمي عليه ومنهم من جفت حنجرته من كثرة الصراخ والتنديد فيما العسكري يخرج من جيبه حفنة مكسرات أخرى. الى جانبه، وقف زميل له خضع لمحاولة استفزاز أحد المتظاهرين. - «مواليد كام؟» يسأله الناشط. - 1990 يجيب ببسمة تحرك ملامح وجه مرهق. - عارف حصل ايه في فبراير 1986؟ يحدثه الناشط عن انتفاضة الأمن المركزي في شباط (فبراير) 1986عندما قام حوالى ثمانية آلاف جندي من الأمن المركزي مندفعين بخوذاتهم ورشاشاتهم وبنادقهم في تظاهرات مسلحة من منطقة الهرم امتدت إلى ست محافظات مختلفة في مصر، بعدما انضمت اليهم فئات المهمشين والعاطلين من العمل. بصمت، يبادله الجندي ابتسامة ممزوجة بالإحراج. في هذه الأثناء من الناحية المقابلة في صفوف العسكر، بدأت هراوات الأمن المركزي تتساقط على رؤوس المتظاهرين في شكل عشوائي بعد محاولة البعض كسر الحصار المفروض أو ربما بهدف تعزيز جدار الخوف من الأمن بعدما بدأ يتصدع تدريجاً في السنوات الماضية. سقط الكثير من الجرحى وسال الكثير من الدم، وغاب مشهد ذاك العسكري «الغلبان» ولم يعرف ان كان التزم أوامر «خندقه» او راح على الأقل يحاول التخفيف من حدّة القمع. وسط حالة القمع وسيل الدماء، تعالت الأصوات بين الناشطين الرافضين لوجود المتظاهرين الذين لعبوا دور الشرطة على رفاقهم. وبينما معسكر الأمن متراص في صف واحد، تطوّرت المشاحنات الكلامية الى عراك في الأيدي بين بعض المتظاهرين. وسط هذه الفوضى، كان هناك من الناشطين من يحاول دفع الناشطات الى الوراء صارخاً «الحريم الى الوراء» و «الحريم لازم تروّح البيوت». ما استفزّ الكثير من النساء «انا ناشطة زيي زيك، لو عايز تروّح روّح انا باقية هنا». وفي كل الأحوال، وحده الأمن طبق المساواة ولم يفرّق بين «الإخوة» و «الأخوات» وفرض الحصار على الجميع ملقياً بهراواته على الجميع.