التسخير الكوني للجنس البشري ليس مقصوراً على المشاهد الحسية التي يراها المرء بعينه المجردة كالشمس والقمر والنجوم والدواب والنبات، بل يتعداه إلى مشاهد معنوية تحمل رموزاً كثيرة للإنسان الذي حباه الله بملكة التأمل وحفزه عليه في كتابه الكريم. هناك مشاهد كثيرة تحدث في عالم الحيوان، تحمل في مضامينها رموزاً قد تساعدنا على فهم الكثير من معاني الحياة الغامضة بالنسبة إليه، في إحدى القنوات الفضائية المهتمة برصد تحركات الحيوانات في مواطنها الأصلية، رصدت إحدى المُصورات الأجنبيات مشهد دُبَّة «أم» تقف مع جرائها الصغار على جانب من نهر عذب، وفيما هي تقف بسلام مع جرائها يمر على الجانب الثاني من النهر دب ذكر يتضور جوعاً، ويرى الجراء الصغيرة وينوي التوجه إليها، رأته الدُبَّة الأم وعرفت نيته في الهجوم على جرائها، كانت شجاعة لدرجة أنها لم تنتظره ليسبح في النهر ويتجه إليها، بل توجهت إليه بكل قوة وشراسة مغامرة بحياتها، نزلت في النهر وسبحت في الماء الذي كان يجري بقوة واتجهت إليه في الضفة الأخرى، لتقف في وجهه وتزأر بقوة، سمعت صداها المصورة، التي رصدت المشهد من بعيد، ضربته بيدها واستمرت تزأر وتهاجمه إلى أن استسلم واستدار ليعود من حيث أتى. كانت المعركة مركزة على الزئير أكثر من الهجوم الجسدي بين الدب والدبة، وانتصرت الدبة وعادت إلى جرائها لتقف بجانبهم مرة أخرى، وبعد برهة قصيرة، وبينما كانت المصورة مستمرة في رصد المشهد لمحت دباَّ، استبعدت جداً أن يكون الدب الأول نفسه، ولكن بعد التركيز فيه أكثر عرفت بأنه هو نفسه، لأنه كان مرقطاً نوعاً ما، ظهرت عليه ملامح شراسة غير طبيعية وانتقام جبار، واستبعدت المصورة انتصار الدبة عليه هذه المرة، لأن علامات غضبه كانت جامحة ومخيفة، توجه إليها ورأته، وبالقوة ذاتها نزلت إلى النهر مرة أخرى وهاجمته بضراوة، وبدوره هاجمها، واستمرت بالزئير وهي تضربه بإحدى يديها وتدفعه للعودة من حيث أتى. أخبرت مصورة المشهد في ذلك الوقت، بأن الدب كان أكبر من الدبة وأقوى، ظهر ذلك من مخالبه التي بدت مخيفة وأكبر من مخالبها، ولكنها هزمته، وعاد الدب مرة أخرى مهزوماً ولم يجرؤ على العودة مرة أخرى، وعادت هي إلى جرائها لتراهم وهم يقلدون المشهد ويتعاركون. كان مشهداً رائعاً وطبيعياً، في ظاهره وباطنه، النهر كان جميلاً وعذباً وبارداً، والجبال من خلفه كانت خلابة، والدببة الصغار كانوا فعلاً ظريفين، ولكن المعاني التي حملها ذلك المشهد كانت قوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فظاهر المعركة كان يوحي بهزيمة الدبة لا محالة، ولكن ما حدث خالف كل الموازين الحسية والمرئية، وكان الانتصار للدبة بما حملته من قوة داخلية في أعماقها، تأججت بفعل حس الأمومة التي فطرها الله عليها. الأم... بكل بساطة قد تقتل نفسها لأجل أولادها، وهذا الحب في أعماقها أقوى من أن تسيطر عليه لأنه فطري، قد تفعل أي شيء لتحميهم وتحافظ عليهم، والمشهد الذي رصدته المصورة تدخلت فيه العناية الإلهية من دون أدنى شك، ليكون النصر لمن يحمل في نفسه الشجاعة الكافية لمواجهة أي خطر بسلاح الحس الضميري، ما يعني أن هذا الكون فيه اعتبارات كثيرة يمكن أن تقلب كل الموازين التي يعتنقها العقل البشري. إن مثل ذلك النصر غير المنطقي بالعقل لا يمكن أن يحدث إلا بوجود القوة الداخلية المنبثقة من إمكانات المرء، حين يصدق بنيته مع خالقه القادر على إمداده بالعون المطلوب عند أي ضائقة، إنها قوة الإيمان التي تؤججها الدواخل الصادقة المنصهرة في القضية التي تحملها الأرواح الحية، وهي القوة نفسها التي حملها المؤمنون في يوم بدر، حين كان عددهم «30» والمشركون ثلاثة آلاف، وكان النصر حليفهم. تتدخل العناية الإلهية دائماً بإذن من الله حين تتحقق مقومات الصدق والإخلاص، وهذا ما يُسمى لدى الإنسان بالنية الطيبة أو الضمير الحي. رانية عبدالرزاق - جدة