تخترق كلمات باللغة العربية الفصحى صدى «كركرة» النراجيل في المقهى. تحولت الطاولة «المنفية» في آخر الرواق الى مركز اهتمام الطاولات المحيطة بها تلك الليلة: العيون شاخصة، الآذان متيقظة لسماع صورة شعرية تدوّي من هنا، وعبارة «آه ه ه» تتردد من منتصف الطاولة، المستمعون يُثْنون على بيت شعري يقرأه مهدي منصور من قصيدة «رسل البيادر» التي حفظها على هاتفه الخلوي، فيما يتحضّر سليم علاء الدين لإلقاء قصيدة باللهجة المحكيّة، ريثما يصل اليه الدور. تلك الليلة، لم تكن الأولى من مسلسل «سهرات الشعر» شبه الأسبوعية، التي يلتقي فيها شعراء وجمهور شباب في مقاهي الضاحية الجنوبية. يكفي أن يوجه أحدهم دعوة الى الأصدقاء عبر «فايسبوك» ليلتئم الشمل في المكان والزمان المحددين، «هي سهرة لا تختلف عن أجواء السهرات الشبابية إلاّ بإتاحة الفرصة لجمهور الشعر للاستمتاع بالقصائد، لكنها تعدّ حافزاً أيضاً للشعراء لكتابة قصائد جديدة بشكل أسبوعي»، يقول علاء الدين. لم يكن الاجتماع الأسبوعي قراراً، بدأ بلقاء عادي بين الأصدقاء قبل أكثر من عام، وما لبث أن اتسع «البيكار» حين وجد الشعراء صدى لسهراتهم. يقول علي منصور: «بداية، كنا نجتمع، أنا وسليم وأصدقاء آخرون، بعد كل أمسية شعرية مشتركة لاستكمال السهرة، وتزيينها بإلقاء القصائد. مرة تلو مرة، كان يكثر الأصدقاء، ويلومنا آخرون لعدم دعوتهم، خصوصاً بعد أن يشاهدوا الصور على فايسبوك». الآن، وصل عدد المجتمعين الى 15 شخصاً، «لكننا لا نتخطى هذا العدد كي يبقى المجال مفتوحاً أمام الجميع لقراءة قصائده والاستماع الى الآخرين». ومن الواضح أن الشعراء منحوا سهرتهم البعد الشبابي، «أخرجنا الأمسيات الشعرية من الصالونات الأدبية الى باحة مفتوحة على مدى جديد»، يقول علاء الدين. بالإضافة الى ذلك، كسب هؤلاء جمهوراً يتلذذ بالشعر خارج الأمسيات الكلاسيكية. ويعبّر نص الدعوة الموجه على «فايسبوك» عن رؤيتهم، اذ يقول ان «النرجيلة غير ممنوعة في هذه السهرة»، و»لا تنسوا قصائدكم... أبواب التحدي مفتوحة للجميع». تخالف السهرة عبارات الدعوة، اذ ان التحدي هنا لا يتخطى الاستعراض البسيط. يثني الحاضرون على قصائد، ويجاملون صاحبها اذا تعثرت ذاكرته باستعادتها. يضحك الجميع لقصيدة فكاهية، «الكوميديا السوداء نمط أساسي من أنماط الشعر، وله جمهوره»، يقول الشاعر السوري يوسف سليمان، مشيراً الى أن قصيدة «الصرصورة» الفكاهية «تُطلب في كل جلسة، لكونها مثيرة للضحك». وفي المقابل، يتعاطف المستمعون مع صاحب قصيدة «نهاية اللقاء»، ويدعونه لتخطي الأزمة. شعراء تسمع باسمهم، وآخرون يكتبون «محاولات شعرية»، التقوا جميعاً على طاولة واحدة، تجمعهم نرجيلة... وكلمة طيبة. إنها العاشرة والنصف مساءً، لم تعد الطاولة التي يجلس اليها ثمانية أشخاص تتسع للحاضرين، وصلت زينة للتوّ برفقة ثلاث صديقات، وصلتها الدعوة متأخرة «لكنني لن افوّت فرصة الاستماع الى قصيدة سليم الجديدة». تحمل مهى، احدى صديقاتها، ملفاً يحوي أربعة قصائد. تلقي ما كتبت، «لكنها قصيدة إباحية». استرعت القصيدة انتباه جميع الحاضرين، «انها فرصتي لإلقاء ما لا أجرؤ على قوله خارج هذا المكان»، تقول، ذلك ان «مساحة التعبير هنا حرة، وسيتفهم الحاضرون القصيدة من دون خلفيات». اذاًً، باتت الجلسة منبراً حراً للجميع، ومساحة للاستمتاع بقصائد محظورة من وجهة نظر اجتماعية. الجمهور من مختلف الأطياف والمناطق. يوجه الشعراء دعواتهم الى عدد محدود من الأصدقاء «بحسب قربهم من المنطقة التي تعقد فيها الأمسية»، كما يقول علاء الدين. لا يمكن لهم أن يوجهوا دعوة الى خمسة آلاف صديق يتضمنهم حسابهم الشخصي على «فايسبوك». غير أن المشترَك بين الحاضرين هو شغفهم للاستماع الى القصائد خارج القاعات الثقافية. تقول ميرال: «أحب الشعر، لكنني لا أطيق الجلوس على كرسي في قاعة كأنني في صف مدرسي». ربما تتيح لها الجلسة فرصة للتفاعل، عبر إلقاء محاولاتها الشعرية والاستماع الى انتقادات بناءة. من وجهة نظرها، هي نقطة جوهرية «لقول ما أريد، وسماع الآراء بقصائدي». التفاعل بين الشباب يجد مساحته ايضاً خارج اطار العالم الافتراضي. هنا أمسية شعرية بنكهة شبابية، يتخللها صمت مرة، وضحكة مرة أخرى، و «آه ه ه» تتردد بين بيت شعري وآخر. سهراتهم تؤكد أن الشعر ما زال يستحوذ على جمهور يعشقه... خارج الأمسيات الكلاسيكية والصالونات الشعرية.