حين الوصول إلى قاعة السينما في الباستيل، الحي الباريسي الشهير، كان أول ما يفاجئ الطابور الطويل الذي اعتقدت في البدء أنه لجميع الأفلام التي تعرض في الوقت ذاته في هذه السينما. ثمّ سرعان ما تبينت خطأي فلكل فيلم صفّه. كان هذا مبعث أسفي، أولاً لظني بأن الفيلم سيكون كما توقعت وثانياً لاضطراري للوقوف في الصف! يبدي الملصق الدعائي لفيلم «برّ بحر» للفلسطينية (عرب 48) ميسلون حمود، فتاتنن معاصرتين تمسكان زجاجة بيرة وتدخنان، وسطهما فتاة محجبة بيدها كوب مجهول المحتوى. ثمة ما يوحي بالنسوية وترددها بين الحرية والمحافظة في أوساط عربية الانتماء... ثمة ما يثير اهتمام جمهور غربي، نسائي في معظمه، في هذا الملصق. قمعت حرية مشاعري ومعها أفكاري المسبقة عما أوحته الصورة والطابور المزدحم، ورحت أحاول الانغماس باهتمام وموضوعية في الفيلم الفلسطيني الإخراج الإسرائيلي الإنتاج. من الزغاغ إلى الضجر بداية حيوية لحفل زفاف وتقديم موفق لشخصيات الفيلم وأداء جيد، ثمّ ما لبث أن تسلل شعور بالضجر أخذ يتصاعد على رغم فكاهة هنا وسخرية هناك كانت تُخرج المشاهد أحياناً من معالجة ثقيلة للمواضيع وتكرار ممل للأحداث. لا يعني هذا أن «سأرقص، إذا شئتُ»، عنوان الفيلم في الترجمة الفرنسية) و «لا هنا ولا هناك» (في العبرية)، فقير يتسول المواضيع والأحداث، بل على العكس فهو متخم بها، وثمة عناصر عامة تتزاحم في البناء الدرامي ويتم إبرازها بنوع من تأكيد تعليمي مباشر حتى ينتبه من فاته الانتباه. هكذا، تتوزع الخطوط العريضة على الدين والتقاليد والجنس والسهر والسُكْر وتعاطي المخدرات والمثلية والاغتصاب... عبر قصص ثلاث فتيات فلسطينيات قدمن للعيش في تل أبيب للعمل أو للدراسة. ليلى محامية مجهولة الديانة تسكن مع سلمى المسيحية المثلية في نفس الشقة في تل أبيب، تحطّ عليهما نور المسلمة المحجبة الطالبة القادمة من قرية صغيرة لتشاركهما العيش بدلاً من صديقتهما التي تزوجت. «ستجعلانها تتذوق طعم الحياة والحرية» وفق ما قرأنا من نقد في صحيفة فرنسية! فأهلاً وسهلاً بكم في هذا الخليط النسائي العربي المفتعل في تل أبيب! في البداية، تنفر نور من نمط حياة شريكات السكن، فليلى تعشق الحياة ولا تنزل السيجارة من يدها، تقضي أمسياتها بالسهر والرقص والشرب وتنشق الكوكايين لدى الصحاب أو في ملهى حيث تعمل سلمى نادلة و»دي جي». ثمة تفصيل مهم يتعلق بنور المحافظة وخطيبها «المتدين» الذي ينتقد بالطبع اقامتها مع هاتين «الفاسقتين»، إلى أن تكشف المخرجة وبكل حرص وتشفّي النقاب عن هذا التدين «المنافق» والورع المزيف بعد اغتصابه الخطيبة واستغلال عمله الخيري في مداعبة النساء، ما يشجع نور على تركه بمساعدة وتشجيع ليلى وسلمى اللتين جذبتاها إلى صداقتهما وإلى عالم الحرية والاستقلالية! أسلوب السرد، في إلحاحه على ما تريد المخرجة إدانته وفي مبالغته في تأكيده أضفى أجواء ثقيلة ومفتعلة على الفيلم وأبعده من النزاهة والواقعية التي تدعيها المخرجة. وجاءت المشاهد «الجريئة» لا سيما في المداعبات المثلية مجانية ومكررة من دون أن تكون ضمن سياق درامي، وبدت كأنها مداهنة للعين الغربية وتقليد سخيف للتوجه الغربي في هذه القضية، وأسلوب ساذج متعمد من قبل المخرجة لصدم العين العربية ولاثبات كم هي «ثورية وجريئة» في دعوتها لتغيير المسلَّمات. أين الثورة؟ حمود، وهي صرحت في لقاء لها مع صحيفة فرنسية بأن منتج الفيلم المخرج الإسرائيلي شلومي الكابيتز (شقيق الممثلة الإسرائيلية الراحلة رونيت الكابيتز، إذ اشتهرا بعمل أفلام عن وضع المرأة الإسرائيلية) ساعدها على تطوير السيناريو، إذ أرادت التعبير عن واقع معاش لدى الشباب العربي بتل أبيب من خلال نساء فلسطينيات يعشقن الاحتفال والسهر ويعشن حياتهن على هواهن بعيدا عن عائلاتهن وفي وسط إسرائيلي تعتبر تل أبيب أفضل تمثيل له. ليكن! لكن أن تصبغ صفة التمرد على بطلاتها وتحاول إقناع المشاهد أن التمرد والثورة على التقاليد يختزل بالطريقة التي ابدتها فهذا ما لا يمكن الاقتناع به. هي لم تبدي من تمرد أولئك الفتيات سوى الاستفراغ من السكر على قارعة الطرقات أو استنشاق الكوكائين أو ممارسة العلاقات الجنسية بشتى أنواعها. هذا هو التمرد الوحيد الذي أعجبها، لا نقاشات، لامحاولات لاثبات الذات في العمل، لا ثورة حقيقية على تقاليد مجحفة فيما يتعلق بأساسيات حياة المرأة في المجتمعات العربية والمسلمة. إذ حتى حين اتخذت نور قراراً حكيما بالانفصال عن خطيبها، لم تتجرأ على البوح بحقيقة السبب لوالدها. فأين الثورة؟ أهي فقط في محاولتها التدخين وشرب الكحول؟ إضافة إلى هذا فإن بطلات حمود لا يعطين أدنى رغبة بعيش هذه الحرية إذ يبدون تعيسات بائسات على الرغم من عيشهن كما يحلو لهن، بمعنى أن تلك الحياة التي تتمسك بها واحدة منهن، هي ليلى، وتترك حبيبها عندما تكتشف أنه ليس متحرراً كما يدعي لأنه لا يطيق نمط حياتها، ليست مقنعة وليست الحياة التي يبدو أنها تجلب السعادة لبطلاتها وليس فيها شيء من البطولة أو من تحقيق الذات. أما عن كشف زيف المجتمع الإسرائيلي الذي يبدو أن المخرجة طمحت لتبيانه، فيجب التنبيش عنه وربما كان في هذا المشهد الذي ترمي فيه سلمى مريول المطبخ حيث تعمل في مطعم إسرائيلي، لأن صاحبه منعها من الحديث بالعربية! مشهد محشور ومفتعل لأن المشاهد لم يلحظ ولو لثانية أدنى ارتباط لسلمى بأصلها العربي، فجاء المشهد ليقول مباشرة ما لم يستطع الإخراج إبرازه من خلال السياق ما يدل على ضعف المستوى الإخراجي. كما أن تكرار مشاهد السهر والسكر وتبادل المداعبات بين الفتاتين المثليتين، حشر في شكل مبالغ به فاختزل الفيلم بين مشاهد الاستمتاع و»الحرية» مقابل مشاهد القهر ما يعني إظهار التطرف في الجهتين من دون الاهتمام بما هو أبعد وأعمق. كما كان محاولة مصطنعة لكسر الأفكار المنمطة للإقناع بأن المسيحيين كالمسلمين في «تعصبهم» ورفضهم المثلية، وأن المسلمين يمكن لهم، ويا للعجب، أن يكونوا متفهمين (والد نور) وكأن ذلك جاء لتخفيف وقع ما فعلته الشخصية المسلمة السيئة. انتقادات لا معنى لها! إن كان الفيلم طرحاً جريئاً للواقع الفلسطيني في إسرائيل، وصورة واقعية عن عيش الشباب العربي في تل أبيب ليكن، لكن إعطاءه دوراً أكثر مما يستحق، بأنه يظهر العنصرية الإسرائيلية وأنه درس في الحرية فهذا ما لا يُقنع على الإطلاق. فأي حرية تلك المطلوبة بالسهر اليومي والسكر والعربدة في الشارع والجنس وتنشق المخدرات؟ تأرجح الفيلم بين رفض «المتشددين» وقبول «المستغربين» فماذا يفعل من ليس مع الاثنين ومع هذه النظرة الحمقاء التعليمية لما يجب أن تكون عليه حرية المرأة العربية؟ هل عليه أن يقبل بهذه المهزلة حتى لا يقال عنه متطرف؟ كما يبدو أن الفيلم أثار ضجيجاً وانتقادات لا معنى لها من نوع إساءة لبلدة «أم الفحم» موطن إحدى البطلات، وكأن تلك البلدة لا تحوي إلا أناساً مرضي عنهم أخلاقياً. متى يكف هؤلاء عن اعتبار أن ما يحصل في عمل فني روائي لا علاقة لهم به ومتى يكفّ البعض عن القول أن شرفهم ودينهم يهاجم لمجرد أن متديناً في الفيلم أثبت أنه منافق! هذا فيلم يلقى تهافتاً في الغرب وللأسف فإن جوهرة سينمائية مثل «أمور شخصية» للفلسطينية (بهوية إسرائيلية) مها الحاج، لم تلق هذا الحماس، في فرنسا على الأقل.