الرقص هو «لحظة تدمير العالم الطيبة». رولان بارت كان مقرراً أن أقرأ مقالة بحثية حول تشكل الخطاب في رواية «رقص» في نادي الباحة الأدبي، ولكن الأمور اتخذت مجرى آخر، وليس المجال لها في هذه المقالة. لقد قابلت الدكتور معجب، وأعجبت في القراءة الأولى برواية «رقص» بل فتنت بها، ولكنني بطيبة قروي الجبال وببرودة الباحث الأكاديمي، قلت لصديقي معجب اعذرني يا صديقي، فأنا حينما أعالج روايتك سأقوم بتحليل وردها وشوكها، سأنظر إلى سطحها وسطحها الآخر، وسأحلل خطابها بطريقة العلماء لا طريقة الأصدقاء، فأجابني بما يعلمه هو ثم كان ما كان بيده وبيد عمرو أخيه، ولكن عزة لم تتغير بقيت هي عزة وبقي كثير يوطنها على تصغير المصائب. «وقد زعمت أني تغيرت بعدها/ ومن ذا الذي يا عز لا يتغير». ولذا سألقي بأوراقي واستشهاداتي وقراءاتي التي كنت جمعتها، لأكتب حول خطاب الرواية في مكان مبعثر لساعة ربما تحين يوماً ما، وسأكتب ما يجود به القلم في هذه اللحظة السائلة وأنا أتلذذ بسماع رقص المطر، حيث بدأ رقص الرواية. إن الرقص الذي نعرفه ليس هو الرقص ذاته، بل هو خطاب اللغة التي تدور حول الرقص. و(معجب) معجب برقصات روايته الثلاث رقصة الرجال ورقصة النساء والرقصة الصوفية، هذه الهندسة الواعية تخفي في أعطافها هندسة لا واعية تروم تغطية ضعف خطاب الرقص في الرواية، لتستبدله بفعل الرقص نفسه. إن الرقص عند (كازنتازاكي) يتحول إلى خطاب تدور حوله الرواية، لكنه في رقص معجب مجتلب ليجمل الرواية، هو مقحم بفعل الوعي لا بفعل الكتابة الخلاقة اللا واعية. إن تعليق (الغذامي) حول رقصة الألم لفعل التطهير، الذي كان تقليداً وطقساً من طقوس العبور في جنوبي المملكة وتشبيه (الغذامي) الألم الحادث بعد قرأته لرواية رقص بمثل إحساس من يقع عليه التطهير، وأن ذلك جلداً للذات كالرواية التي تطفح بجلد الذات، هو تعليق غير صحيح البتة، فمن يستقبل فعل التطهير في طقس العبور ذاك، لا يحس بالألم بل يحس بالنشوة واكتمال شيء ما منه بأخذ شيء آخر رمزي. أما جلد الذات فلم تجلد الرواية ذاتاً كيف تجلد ذاتاً، وهي تدعو إلى الانغماس في التجارة لا الانغماس في الكتابة! إنها في الحقيقة عرّت ذوات كثيرة عرتها لدرجة تعرية التعرية، وفضحت جزءاً من المستور في مجتمع يمتلئ بسوءات يحاول منذ فترة طمسها ودفنها في التراب وهي لما تزل تعتمل فيه، لقد قاربت الرواية الخطاب الديني بعنف. وقاربت خطاب توحش الطفرة، وقابلت الراهن الأيديولوجي والراهن السياسي بلطف يخفي عنفاً أو بعنف يخفي لطفاً، كما قاربت الخطاب العنصري في المجتمع، ومرت عليه مروراً سريعاً مع أنه زبدة المسكوت عنه. وهذه التعرية للذات من أهم عناصر الرواية المميزة، ولأجل ذلك لا أجد مبرراً لحزن الغذامي، لأن الرواية كتبت بالسكين، إلا ان كانت السكين ليست حادة بما يكفي لفضح اللا مفضوح. كان لمعجب أن يتخذ من طقس رقصة التطهير لغة لرقصه فيها شيء من الغرائبية، قد تعلي من أسهم روايته لكنه لم يفعل. أتى برقص لا خطاب رقص، ومما أضعف خطاب الرقص على وجه الخصوص هو اجتلاب الرقصة الصوفية، مع أنه يجهل بعض تجلياتها في بعض المواضع من مسقط رأسه. إن كاتب الرواية باحث وقد تخفق روايته بنقص معطيات بحثه، ومعجب يعرف ذلك جيداً. فما الذي فعلته فينا رقص؟ هنا سأجتلب إعجاب (علي الدميني) الذي شده للرواية عبارات أسلوبية على لسان (شيبان الديرة). معجب يريد كتابة رواية على رغم أنف الرواية، ومهما كان الثمن بحث عن بطل من ورق فنفخ فيه الروح. بحث عن أيديولوجيا باهتة فبهت بها الخطاب الروائي، استعرض عضلاته الفلسفية فكانت كرقعة ليس هذا مكانها، استحلب الذكريات فكانت ككل الذكريات اندلق حليبها على ثوب مرحلة ما بعد الخمسين من العمر، وغسل الثوب سريعاً في مغسلة بخارية أتوماتيكية شفاطة لكل جميل. ثم ماذا هل استثمر معجب تقنيات الرواية الحديثة من فضاءات وعتبات وطرق سرد؟ هل كانت شخصيات روايته بعمق خبرته في نقد الرواية؟ هو أدرى بإجابة السؤال الذي أنا متأكد من إجابته وهي: «كلا». وفي النهاية هل استثمر معجب رهافة الذوق الفرنسي، في صقل المفردة وتلميعها وغرائبيتها؟ هل زرع زهور اللوز في طرق الشوك؟ إن نفس الفنان تتجلى في الأسلوب الشاعري الذي كتبت به الرواية، ومع جماله، ومع ما استطاعه معجب بمهارة من ترصيع ألفاظه بالقاموس المحلي في جبال الباحة الساحرة، ولعل هذا هو ما أخذ بلب علي الدميني، وأخذ بلبي أيضاً في قراءتي الأولى للرواية، إلا أن الأسلوب الشاعري إذا لم يكن يخدم الرواية فلا قيمة له، ولأنه كان يخدم الرواية في كثير من المقاطع السردية فقيمته لا تنكر. ولكنه بالمقارنة بالأسلوب الفرنسي هو أسلوب ذو جمال تقليدي لم يمنحنا أفقاً مجنوناً، أفقاً يسبح بنا في ملكوت اللغة يجرنا إلى الدهشة، يجرنا إلى خطاب الرقص ذاته إلى لغة الرقص إلى لغة (التمييس) إلى قاموس الرقص بما هو خطاب وأسلوب رقص به مؤلفه وأرقص القارئ. كان أحمد أبو دهمان في حزامه أكثر فرنسية في أسلوبه من معجب، ولطالما كنت أردد لمعجب «أننا في الباحة أصدقاء للسحاب والغيوم، وأن الباحة هي جارة السحاب لأن السحاب لا يأتي من فوقها، بل هو دائماً يلصق كتفه بكتفها ويضع أصابعه بين أصابعها ويغنيان (طرق الجبل) معاً، «ولكنه يذكّرني بسرعة باستعارة أحمد أبو دهمان في الحزام حينما يقول إن المطر في الجنوب لا ينزل من فوق إلى تحت، بل هو يسقط من تحت إلى فوق، فأعجب لغرابة استعارتي، وأعجب لشدة غرابة استعارة أبو دهمان، فأقول لعله أبو دهمان أثر في حينما شددت رأسي بحزامه، وأعود لجمال لغة معجب، فأجدها جميلة، ولكنها ليست بجمال لغة شاعر عاش في فرنسا عشرة أعوام. وبعد هل أحدثت الرواية أثراً ما هذا ما كان معجب يسألني عنه، فأقول نعم كم من قارئ قرأها فطرب وكم من قارئ قرأها فكرب، وهي كعمل أول لقامة كمعجب تعد شيئاً مذكوراً، ولا حاجة لها بتلك الشراهة في تسويقها حتى على حساب اللحظة الجميلة التي يحاول كاتب الرواية اصطيادها في زمن عزت فيه لحظات الجمال وعز فيها أهل الجميل. * ناقد سعودي.