لسنوات عدة ظلت الفنانة التشكيلية عُلا حجازي أسيرة لإنثيالات اللون الأحمر، لطاقته ودلالاته وعنفوانه المختبئ في ضوئيته الحادة، بل إنها بقيت رهينة لجاذبيته المشعة والعاكسة لثوران داخلي ينتاب ذاتها المبدعة تحاول التعبير عنها والبوح بها بواسطته، وربما كان هذا الأسر اختيارياً بطوع إرادتها الواعية، أو قد يكون تَملُكياً قبض على جوّانيتها الفنية ليستنفذ تمثلاته الجمالية لديها، وأياً كان تفسير هذا الانغمار في حِمى اللون الأحمر فإنها واقعياً خامرته، لدرجة أنها تماهت في اشتقاقاته البصرية وحرارته التعبيرية في موضوعاتها المطروقة في عشرات الأعمال. لكن يبدو أنه حانت لحظة التمرد عليه والخروج من وراء قضبانه بما انعكس في مجموعاتها الخمس الأخيرة: دَرويشيات، كُلثوميات،َ وشميات، سِمفونيات ومُوشحات، المعروضة منذ بداية سبتمبر في مبنى الهيئة العليا للاستثمار بمدينة الملك عبدالله الاقتصادية برابغ، وكان محافظ الهيئة السيد عمرو الدباغ افتتح معرضها ضمن «مشروع 60»، في أول مبادرة ثقافية تطلقها هيئة المدن الاقتصادية في برنامجها لعرض 60 عملاً لفنانين سعوديين مختارين، ليستمر كل معرض مدة 90 يوماً. وكما يتضح بأن التجربة في هذا الإطار جاءت متوافقة مع خلاصة اشتغالات حجازي خلال السنوات الأخيرة، إذ طرحت مجموعاتها الخمس التي بدأتها بباقة مختارة من معرضها المقام قبل 3 سنوات بغاليري يوربيا بباريس تحت عنوان «أكثر من أحمر»، وعرضت فيه «الموشحات» بمرجعية اهتمامها بالقصور الأندلسية في الحمراء وغرناطة وأشبيلة، وتجلت فيها تأثيرات البحث في الشخصية الأندلسية متمثلة في الموسيقي «زرياب» والشاعرة «ولادة بنت المستكفي»، وأيضاً في الأدب والشعر الأندلسي خصوصاً في شعر «ابن زيدون» ونثر وحكمة «ابن حزم الأندلسي» في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والألاف». تقول «حجازي» ل «الحياة»: «زرت الأندلس (إسبانيا) عدة مرات، وفي كل مرة كنت أجدها مختلفة عن المدن الأخرى، فتكويناتها الثقافية ذات الصبغة الخاصة والمتراكمة عبر قرون طويلة هي تكوينات ثرية، شِعرها أشبه بجنّة من الموسيقى تتناغم بمعزل عن النَظم والأوزان السائدة في الأدب الجاهلي والعباسي. الأندلس كحاضرة فنية تمنح محبة الحياة وتعين على التحرر من المدارس التقليدية المتبعة، سواء في الشعر أو التشكيل أو الأزياء أو المعمار، لذلك أعتقد أنني عندما اشتغلت على الموشحات كنت متحررة من كل القيود اللونية» . وتستوحي روح الشاعر محمود درويش في أعمال أخرى أطلقت عليها «درويشيات»، لتكتمل فيها مرحلة النضج والتحرر اللوني، فتأتي التفاصيل متصارعة مع مقتطفات من قصائد درويش، وتتشكل في مخيلتها ثم في لوحات شعرية ملّونة، تماماً كما تشكلت من قبل عن تأثيرات شعر الأمير خالد الفيصل وشعر الأمير عبدالله الفيصل، والشاعر العباسي أبو فراس الحمداني. وفي مجموعتها «سمفونيات» امتزج النغم الغربي: الجاز والتانغو والبلوز مع الحرف العربي على أنغام السيكاه والنهاوند والحجازكار، لتظهر موتيفات موسيقية في رموز واضحة مبثوثة في ثنايا اللوحات عبر ثلثية لونية. لكن في «الوشميات» تفاقم اللون الأزرق وانبثق على هيئة أرقام ورسومات بدائية، تفسرها عُلا فتقول: «هذه الأرقام تمثلنا نحن في رحلة الحياة، كم رحل منّا وكم بقي، نحن ألوان تتحرك سوياً، نتصارع مع واقعنا، ثم لا تبقى سوى اللوحات فهي الباقية ونحن الراحلون، إنها حسابات مع الزمن» . ثم تتداخل «الوشميات» مع المخزون الغنائي للفنانة أم كلثوم، بكل ما بثته من ثقافة منفردة أطلقت عليها «كلثوميات» لتبدو إشعاعات أم كلثوم المبثوثة في أعمالها الغنائية : «الأطلال» و«ليلة حب» و«ألف ليلة وليلة» و«أراك عصي الدمع» مولدات جمالية لا ينضب نبعها . غير أنها، على رغم هاجس التضاد الذي يعتريها وهو الساعي إلى تغيير الثابت والمكرر، تبقى معترضة على التقليدي والمستهلك، داعية إلى ضرورة الاشتغال الأصيل على موضوعات حقيقية نابعة من ذات الفنان، فهي كفنانة سعودية تتحرك نحو الوفاء بمميزات انتمائها إلى صفوف الفنانات المجددات، على رغم قلة عددهن في الساحة المحلية، فتترجم تحولاتها ونظرتها وموقفها الذاتي، لتسهم في إيجاد مكانةً رصينة للفن السعودي لا تؤطره الحدود الفنية التقليدية، وتثبت فيه حرفتها في أعمال تجريدية أنجزتها إبان تجربتها خلال العشرة سنوات الأخيرة، مؤكدة بالمحاولات الجادة لاجتياز كشوفاتها من الانطباعية إلى الرمزية التعبيرية إلى المفاهيمية، على رغم أنها لا تحبذ الانخراط في قولبة التصنيفات والمدارس المعروفة.