ولد أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السُّيوطي ليلة يوم الأحد غرَّة شهر رجب سنة 849ه/ تشرين الأول (أكتوبر) 1445م، ونشأ يتيمًا، إذ تُوفي أبوه وهو في السادسة من عمره، فأتمَّ حفظ القرآن الكريم وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب كالعُمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، واتّسعت مداركه بفضل عناية ورعاية عدد من العلماء الذين تولَّى بعضهم أمر الوصاية عليه بعد وفاة أبيه، وفي مقدّمهم الكمال بن الهمام الحنفي، أحد كبار فقهاء عصره، الذي تأثّر به السُّيوطي تأثراً كبيراً، بخاصة في ما يتعلّق بابتعاده من السَّلاطين وأرباب الدَّولة، واعتزال الحياة العامة. ابتدأ السيوطي طلب العلم سنة 864 ه/ 1459م، فدرس علوم الفقه والنحو والفرائض، وألَّف أول كتبه بعنوان: «شرح الاستعاذة والبسملة»، وهو في سن السابعة عشرة من عمره، فأثنى عليه شيخه علم الدين البلقيني. وقد أورد السيوطي في كتابه «حُسْنُ المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» قائمة تضمُّ مؤلَّفاته التي بلغ عددها 1194 عنواناً! وبحسب ما يذكر إياد خالد الطبَّاع في كتابه: «الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي معلمة العلوم الإسلامية»، فقد طُبع منها 331 عنواناً، وما يزال 431 عنواناً مخطوطاً، أما المفقود منها ف432 عنواناً. وهذا المقدار الكبير من التآليف يعود إلى تنوع معارف السيوطي، حيث صنّف في مختلف أنواع العلوم والفنون: في التاريخ، وعلوم القرآن، والتفسير، والحديث وعلومه، والفقه، واللغة، والطبقات والتراجم، والتصوف... إلخ. أعانه على ذلك انقطاعه التامّ للتأليف وهو في سن الأربعين من عمره حتى وفاته في التاسع عشر من جمادى الأولى سنة 911ه /20 تشرين الأول 1505م. هذا بالإضافة إلى ثراء مكتبته وكثرة شيوخه ورحلاته إلى كل من: اليمن، وبلاد الشام، والهند، والمغرب، كما رحل إلى الحجاز سنة 869ه فجاور بها عاماً كاملاً. وقد ترتّب على ذلك أن اتّسع عمره التأليفي إلى خمس وأربعين سنة، حيث انقطع للتأليف اثنين وعشرين عاماً متواصلة، يحدوه الأمل في أن يكون إمام المئة التاسعة من الهجرة، وهو ما عبَّر عنه بالقول: «إنِّي ترجَّيت من نعم اللَّه وفضله أن أكون المبعوث على هذه المئة، لانفرادي عليها بالتبحُّر في أنواع العلوم». عاصر السيوطي ثلاثة عشر سلطاناً مملوكياً، واتّسمت علاقته بهم جميعاً بسيادة التحفُّظ والانقباض عنهم، فكان الأمراء يأتون لزيارته، ويقدِّمون له الأموال والهدايا فيردَّها، كما رفض دعوة السلطان لمقابلته، وألَّف في ذلك كتابا بعنوان: «ما رواه الأساطين في عدم الدخول على السَّلاطين»، ومع ذلك فقد تصدَّر السُّيوطي لكلٍّ من الإفتاء والتدريس والقضاء ومشيخة الخانقاه الصوفية. أمّا التدريس، فبدأه في شوال سنة 870ه، فدرس على يديه الشيخ بدر الدين حسن القيمري أحد علماء الفرائض، وأحد المشاركين في الفقه والعربية، ولزمه عشر سنين، والشيخ سراج الدين الأنصاري، شيخ القرَّاء الذي لزمه نحو عشرين سنة. وأما الإفتاء، فقد تصدى له ابتداء من العام 871ه وعمره اثنان وعشرون عاماً، على مذهب الإمام الشافعي، واستمر في الفُتيا إلى أن اعتزل التدريس وعمره قد قارب الأربعين. وأما القضاء، فتقلّده في عهد المتوكل العباسي سنة 902ه. وأما تولي مشيخة الخانقاه، فكان في سنة 891ه، بعد وفاة الشيخ جلال الدين البكري، واستمر في هذا المنصب حتى سنة 906ه حيث عزله طومان باي. وبالإضافة إلى ما سبق، بدأ السيوطي إملاء الحديث في مستهل سنة 872ه، بعد موت الحافظ ابن حجر العسقلاني، وكان يحفظ مئتي ألف حديث. نصل الآن إلى استعراض مخطوطة «التَّنفيس في الاعتذار عن الإفتاء والتدريس» التي تلقي الضوء على «أدب الاعتزال»، إن صح التعبير. وهذا المخطوط ورد تارة بالعنوان السابق، وتارة أخرى تحت عنوان «المقامة اللؤلؤية في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس للشيخ السيوطي روَّح اللَّه روحه»، وقد نشرت باسم «المقامة اللؤلوية» ضمن شرح مقامات السيوطي (تحقيق سمير محمود الدروبي، الجزء الثاني: ص 996- 1040). يبدأ السيوطي رسالته، بعد البسملة والحمد، بتقرير الشكوى والعتاب فيخاطب علماء عصره بالقول: «يا معشر الإخوان الصُّلحا، وأولي الألباب الفُصحا، ومن لاح له أمرٌ فلَامَ عليه ولحَا، إلى كم تُكثرون عليَّ الكلام، وتُكْبرون عليَّ لذوي الملَام، وتُشيرون إليَّ بالسلام، وتَرِيشُون لأجلي السِّهام، وتُشرعون لي ألسنةً كالأسنَّة، وتُسْرعون في نِسْبتي إلى الضِّنَّة بالظِّنَّة، كأنّي لستُ عندكم ممن يحفظُ السُّنَّة، ولا ممن يعرف طرائق السَّلف التي هي الطَّريق إلى الجنة». ثم يطالبهم بالتروي في إطلاق الأحكام، داعياً إياهم إلى تحرّي الحقائق والتماس الأعذار: «ألا تسألون عن العُذر قبل الملام؟ ألا تُرسلون بحُسن الكلام بدل الكِلَام؟ ألا تُحبُّون أن تكونوا من النَّفر الذين يَجيئون بسلامٍ ويُحيَّونَ بسلام؟ فإن لم تكونوا بالأعذار مُوقنين، فسلامٌ عليكم دارَ قوم مؤمنين». وبطبيعة الحال، يغلب على الإنشاء طابع السجع الذي يفضي أحيانا إلى التكلُّف، وتوظيف النصوص القرآنية والأحاديث والأشعار في خدمة النصِّ، حيث أكثر السيوطي من الاستشهاد بالآيات والأحاديث والأشعار، على رغم صغر حجم الرسالة (7 ورقات). ومن قبيل ذلك قوله: «أليس هذا زمان الصَّبر، الصَّابرُ فيه على دينه كالقابض على الجمر، رأينا فيه ما أنذر به الرَّسول، وصحَّت به الأحاديث والنُّقول». ثم يمضي بعد ذلك لإضفاء طابع الشَّرعية على قرار اعتزال العامَّة، موظِّفاً في ذلك حصيلته المعرفية الواسعة في علوم الحديث والفقه واللغة والأدب، فيقول مدلِّلاً على ذلك: «وما من آيةٍ منها إلا وقد أمر النَّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يَلزمَ العالِم عندها خاصَّة نفسِه، ويَجلس في بيتِه ويسكت، ويدَع أمرَ العوام». ويوضِّح السيوطيُّ أمرَ تلك العلامات التي أخبرنا بها النَّبي، فيقول: «من ذلك: الشُّحُّ المطاع، ودنيا مُؤْثَرَة وهوىً ذو أتباع، وإعجابُ كلِّ ذي رأيٍ برأيه، وذلك عينُ الابتداع». وفي السياق ذاته، يكشف الحافظ السُّيوطي عن جملة من العيوب التي انتشرت بين علماء عصره، وطلبة العلم في مصره، كانتشار العجب وذيوع الكبر حتَّى «جَمَّ الاختلافُ وقلَّ الائتلاف، وكُذِّب الصَّادق، وصُدِّق الكاذب، وخُوِّن الأمين، وائتُمِن الخائن... ونطق الرُّويبضة وتلك هي الطَّامة، وتكلَّم الرجل التَّافه في أمر العامَّة». ولم ينس السُّيوطي -بطبيعة الحال- أن يوجِّه سهام نقده لعلماء السُّوء في عصره، المنقطعين إلى السَّلاطين والأمراء عوضَ أن ينقطعوا إلى اللّه عزَّ وجلَّ، فقال في حقهم: «وتعلَّم المتعلِّم لغير العمل، وكان التَّفقُّه للدُّنيا وليس له في الآخرة أمل... واتُّحِذَت البدعةُ سُنَّة فلا يغيرُها مَنْ مَرَّ، وصار الموتُ أحبَّ إلى العلماء من الذَّهب الأحمر، واسْتعلى الجهَّال على العلماء، وقهَرَ السُّفهاءُ الحُلماء، وولِّي الدِّينَ غيرُ أهله، وظهر الفُحْشُ من كلِّ جاهلٍ على قدر جهلِهِ». يتحصَّل مما سبق أنَّ إيثار العزلة عن الخلق هو في حقيقة الأمر ليس إلا اتّباعاً لإرشاد سيد الخلق عليه الصَّلاة والسلام، وهو ما عبَّر عنه السُّيوطيُّ بالقول: «وأرْشدنا نبينُا الهادي صلّى اللَّه عليه وسلَّم، ما راح رائِحٌ وغدَا غادِي، إلا أنَّا إذا رأينا ذلك قد وقع، وبدا لنا نجمُه الكاسف وطلَع، فلْنجلِس في البيوت، ولنلزم السُّكوت، ولنتَّقِ اللَّه في خاصَّة أنفسنا، ولندع عامَّة الأمور إلى أن نَحلَّ برمْسِنا». والواقع أنَّ الأمر لا يقتصر هاهنا على أزمنة الفتن السياسية إذ ينأى العالِمُ بنفسه عن الدُّخول في معتركها، وإنَّما يتعلَّق بتغيُّر الزمان وتبدُّل الأحوال عما كانت عليه من قبل. وحقيقة الأمر أن السيوطي لم يكن بِدْعاً في هذا الأمر، فكم سبقه من عالِمٍ من قبل «ترَكَ الإقراءَ والإفتاءَ، وأقبَلَ على خاصَّة نفسه والعمل. وقد اقتديتُ بهم ونِعمَ القدوة». وهو الذي طالما قطع نهاره في التَّدريس والإفتاء، واستغرق أوقاته في نفْع النَّاس، فلم يسلم مع ذلك من مقْتِهم وأذاهم، ورميهم إياه كذباً وبهتاناً. ولعله يشير هنا إلى حديث، أو نصيحة رسول اللَّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعقبة بن عامر حين سأله: «يا رسولَ اللَّهِ! ما نجاةُ المؤمن؟ قال: يا عقبةُ بنُ عامرٍ! أَمْسِكْ عليك لسانَك، ولْيَسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتِك». ويعدِّد السُّيوطي بعد ذلك طبقات الذين أخذوا عنه في التدريس والإفتاء، فيقول: «أمَّا التَّدريس، فأخذ عني ثلاثُ طبقات: طبقةٌ أولى كانت خيراً صِرفاً، ديناً وفضلاً وصدقاً وعزماً... وطبقةٌ ثانية تعرفُ وتُنكِرُ، وتذمُّ وتشكُر، وهذه يُحْمَلُ أمرُها ويروجُ سعرُها ويُخفَّف إصْرُها. ثم جاءت طبقةٌ ثالثة: اللَّه أكبر ما أكثر شرَّها!، وأكبر حرَّها، وأشدَّ إصْرَها وأنْكرَ أمرها، وأعظم إِمْرَها، وأقوى فجورها، وأوفى كذبها وبهتانها وزورها، عظيمةُ السَّفهِ والجهل، ليست للعلم ولا للحلم بأهلٍ. فإن صبرتُ حتَّى تأتي طبقةٌ رابعة، وفرقة مُروِّعة لا رائعة، أوشكَ أن يأتي بعد هؤلاء حُثالة الرِّجال، وفِراخ يأجوج ومأجوج الدجَّال». وفي حديثه عن اشتغاله بالإفتاء، يفتخر السُّيوطي بأنه طبَق «فتاوى الأرض شرقاً وغرباً، وعجماً وعُرباً، طالما فتحتُ بها كلَّ مُقفلَةٍ، وأوضحتُ بها كلَّ مُشْكلة، وحللتُ بها كلَّ مُعْضلَةٍ». ثمَّ يوضِّح طريقته، أو منهجه فيها بالقول: «كنتُ أغوص البحار على الجواهر، وأفحص نُقول الأئمة الجُماهر، وأتتبَّع ما خفي على الناس، وأزيل كلَّ إيهامٍ وإلباس، وأحشد النُّقول، وأحشُر كلَّ قول مَقول، وأصْدَعُ بالحقِّ وأصول، وأسْتبقي بذلك ذُخْرا على ممرِّ الزمان لا يزول». وفي السِّياق ذاته، يوضِّح السُّيوطي منهجه في اسْتخلاص الأحكام الفقهيه، فيقول: «لا تقع مسألةٌ مُشْكِلةٌ إلا تتبَّعْتُ كلام العلماء فيها، واستقصيتُ أمرها حسبما أمكن حتَّى أُعطيها حقَّها وأوفيها، لا أكتفي بنقلٍ أو نقلين، ولا أتَّخِذُ للسَّير فيها إلا من الحديد نعْلين، ولا أنبُذها وراءَ الظَّهر بل أنْصبُها نَصْبَ العيْن، وأجمعُ لها الجمعَ الأول ثم أشفعهُ بجمْعين، قَلَّ من ذلك واحدةٌ إلا ألَّفتُ فيها المسْتغرَب العزيز، وكرَّرتُ البسيط والوسيط والوجيز». ويعرِّضُ السُّيوطي -في لغة بليغة مكثَّفة- بجُهلاء عصره، ومُتكبِّرة مِصْره، فيما الواحد منهم مجرد «قارٍ على الأبواب، وتالٍ للقرآن على السلاليم والأعْتاب». فيصفهم بأقذع الألفاظ من قبيل قوله: «ومِنْ رِعَاعٍ اتَّخذوا دين اللّه هُزْأَةً ولعباً، وعلومَ الشَّريعة هَرْءاً ولَغْباً، ليس لهم في العلوم إنعامٌ، إنْ هُمْ إلا كالأنعام، حُثالةٌ حُفَالةٌ... لا يهْتدون طريقاً، ولا يقْتدون فريقاً رفيقاً، ساءَ أدبُهم فلم ينجح طلبُهم، كمَثَلِ الحمير الضَّالة، لا يصلحون لخطابٍ، ولا يُفلحون في سؤالٍ، فضلاً عن جوابٍ، وآخرون ليسوا من العلم في شيء...». ويعيب السيوطي على هؤلاء جميعاً الاهتمام بالمظاهر على حساب الجوهر والباطن حيث «قُصارى أمر أحدهم أنْ طوَّل كُمَّه، وكبَّر العِمَّة، وسرَّح لحيته، وحسَّن هيئته، ثم حفظ دست فجورٍ ليُكابر، وتردَّد إلى الأمراء والأكابر، وصار دأبه إذا حضرت مسألةٌ أن يقول: ذي فيها كلامٌ كثير، واللَّهِ ما يُحسِنُ منها ولا القليل، ولا هو لشيءٍ منها بأثير ... والوَرِعُ منهم إذا سُئل عن شيءٍ يقول: أظنُّ كذا، والذي يظهر كذا، فصلَّى اللَّه وسلَّم على الصَّادق المصدوق الذي أخبر وأنذَر، حيث قال: «تعلَّموا العلم قبل أن يأتي الظَّانُّون، قالوا: وما الظَّانون؟ قال: يوم يُسأل أحدُهم عن المسألة فيقول: أظنُّ كذا»، فقد رأينا ذلك مُشاهَداً بالبصر، وشاهدناه مرئيّاً على وفق الخبر». على أنَّ الأمر لا يتوقَّف عند هذا الحد، بل يسارع أمثال هؤلاء إلى شغل الوظائف العلمية مع أنهم ليسوا أهلاً لها «فترى الواحد من هؤلاء إذا شغرتْ مدرسةٌ لا يصلُح أن ينزل فيها طالباً، مَدَّ عنقَهُ مُتطلِّعاً إلى مشْيختِها وخاطِبا، فلا يجد من يردعهُ بالمقال، ولا من يقْرعه بالخِفاف والنِّعال، ولا من ينشدهُ قولَ من قال: وكم ذا بمصر من المضحكات، ولكنه ضحكٌ كالبكا». فما أشبه الليلة بالبارحة! ومن أجل ذلك يسوق السُّيوطي العديد من الأبيات الشِّعرية التي تبرهن على موسوعيته، فضلاً عن أنه يجيد توظيفها في سياق تبرير قرار العزلة، ومن بينها قول ابن خالويه الهمداني: إذا لم يكن صدرُ المجالس سيداً، فلا خير في من صدَّرتهُ المجالسُ // وكم قائلٍ: ما لي رأيتُك راجِلاً؟ فقلتُ له: من أجل أنَّك فارِسُ»! وينتهي السيوطي إلى سَوْق مُبرِّرات الاعتزال فيقول: «فلما رأيتُ نظام العلم قد فسد، وسوقَ الفضل قد كسد، ووقع التّساوي -ويا ليته- بل التَّقديمُ للهرِّ على الأسد، وامتلأ كلُّ جسدٍ بالحسد، وساد الجاهِلُ بما إليه وُسِّدَ وسَدّ، وكاد العالِم يُجرُّ من عنُقه بحبلٍ من مَسَد، وقيل: يا أرضُ ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي، ويا خيل الجهل اركبي، ويا خيل اللَّه من حيثُ جئتِ فارجعي، رأيتُ أنْ أدَعَ العامَّة وأمرَها، والطَّامَّة وإِمْرَهَا، وأقول -كما قال أكابر الصحابة حين رأوا ترك الفُتا عين الإصابة-: «وَلِّ حارَّها مَنْ تَولّى قَارَّها، وكنْ منها وإن كنتَ فارِهاً فارَّها». فتركتُ التَّدريس والإفادة، والإبداء والإعادة، ولم أُبلغْ أحدا رام منِّي شيئاً من ذلك مُرادَه. وأقصينا الذين يعثُون ويعبثون، وهجرناهم كما هو السُّنَّةُ إلى يوم يُبعثون... فليس لهم عندي جزاءٌ إلا المنع والحرمان، وقطع الموادّ والحسمان، فاليوم الذين أوتُوا العلم من الجُهَّال يضحكون، وعلى أرائك المعارف يتَّكئون، وأمَّا أنا فأرجو الأجر مرتين، وأرجع الاسترجاع كرَّتين، ولا أكترثُ بماءٍ هو دون القُلَّتين». وعلى ما يبدو، فإنَّ قرار الاعتزال الذي استمرَّ حتَّى وفاته كان قرَّ في نفسه بعد أن تدبَّر المصالح، واقتدى في التَّرك والعزلة بالسَّلف الصالح «وانتظرتُ رحمة اللَّه وهي قريبٌ، وعدلتُ عن طريقةِ من هو في شكٍ من ذلك مُريب، وكرَّرتُ على سمعي ذكرَ حبيبٍ من حديث: «كنْ في الدُّنيا كأنَّك غريب». فهذا الإحساسُ بالاغتراب الذي يتولَّد لدى العلماء في كلِّ عصر إنَّما يتأتَّى لهم بسبب غربة العلم نفسه، فضلاً عن الشعور بالغبن والقهر والتهميش حيث يعم الجهل، وهنالك لا يملك العالِم سوى أن يردِّد بيتَي الإمام الشافعي: أأنثرُ دُرّاً بين سارِحَة النَّعم، وأنظمُ ياقوتاً لراعية الغنمْ؟// لعمري لئن ضُيِّعْتُ في شرِّ بلدةٍ، فلستُ مُضيِّعاً فيهم غُرَر الكَلِمْ!