المعرض الضخم الذي افتُتح حديثاً في متحف الفن الحديث في نيويورك تحت عنوان «نيويورك والتعبيرية المجرّدة» هو دون شك الأهم الذي يخصّص لهذه الحركة الفنية الطليعية التي انطلقت في العاصمة الأميركية عام 1948 على يد فنانين كبار مثل جاكسون بولوك وبارنيت نيومان وويليام دو كونينغ ومارك روتكو، وحوّلت هذه المدينة إلى قطبٍ رئيسي في الساحة الفنية الدولية. حدثٌ فني إذاً لا يمكن إهماله خصوصاً وأنها المرّة الأولى في تاريخ هذا المتحف العريق التي يرصد القيّمون عليه كل صالاته لمعرضٍ فني واحد. وفعلاً، ينطلق المعرض في الطابق الرابع حيث تم توزيع نحو مئة لوحة وستين منحوتة وعددٍ كبير من الرسوم والصور الفوتوغرافية والمحفورات والأفلام تحت عنوان «الصورة الكبيرة» بهدف الإشارة إلى الميزة المشترَكة الأولى لفناني هذه الحركة، أي العمل على أحجام وقياسات الكبيرة. وفي الطابق الثاني، نستكشف تحت عنوان «أفكارٌ لا نظريات» مختلف الأفكار التي سيّروها، قبل أن ننتقل في الطابق الأول إلى موضوع تنوّع الهياكل المستخدمة وجانبها المبتكَر. أما عملية تنظيم المعرض ككل فتهدف إلى إثارة دهشة الزائر وانفعاله إن من خلال أهمية الأعمال المختارة أو من خلال الحوار المثمر الناتج من طريقة ترتيبها إلى جانب بعضها البعض. ومع أن بعض صالات المعرض رُصدت أحياناً بأكملها لأحد وجوه هذه الحركة، مثل بولوك أو روتكو، لكن الغاية من ذلك هي التركيز على دور الفنان وأهمية اختباراته ليس كعبقري منعزل بل كفردٍ داخل مجموعة واضحة المعالم تمتّعت بحدٍّ كبير من التماسك وانتمى أفرادها إلى نفس الجيل وتقاسموا القيَم ذاتها والالتزام نفسه تجاه شكلٍ فنّي يسمح بالتعبير عن قناعاتٍ شخصية، وإن امتلكوا تواقيع ومقاربات أسلوبية مختلفة. خصوصيات التعبيرية المجرّدة وإنجازاتها كثيرة ومثيرة، لكن لفهمها لا بد أوّلاً من التوقف عند أصولها ومصادرها التي تعود بمعظمها إلى الطلائع الفنية الأوروبية. ولا عجب في ذلك، فمع تنامي النزعات القومية في أوروبا مع بداية الثلاثينات، استقبلت الولاياتالمتحدة أبرز وجوه هذه الطلائع التي نشطت خصوصاً في نيويورك، ولكن أيضاً في ولاياتٍ أخرى، وأمّنت للفنانين الأميركيين اتصالاً مباشراً بإنجازاتها. هانز هوفمان مثلاً درّس في جامعة بيركلي بكاليفورنيا وفي «رابطة طلاب الفنون» بنيويورك وكان مارك روتكو أحد تلامذته؛ جوزف ألبرس كان أستاذاً في معهد باوهاوس وعضواً في «صالون الوقائع الجديدة» في باريس قبل أن يغادر إلى الولاياتالمتحدة حيث اعتُبر أحد رواد الفن البصري. وبين عامَي 1933 و1939، تبعه مارك شاغال وماكس أرنست وفرنان ليجي وبيات موندريان وإيف تانغي وروبرتو ماتا وأندريه بروتون وكثيرين غيرهم، وكان مارسيل دوشان قد سبقهم ومهّد لهم الطريق. والتقاء هؤلاء بالجيل النيويوركي الصاعد هو الذي أطلق «مدرسة نيويورك» الفنية، وحركة التعبيرية المجرّدة تحديداً التي بحث أربابها في فنهم عن حصيلة للتكعيبية والمستقبلية والتوحّشية والتعبيرية الألمانية والسورّيالية، حصيلة أخذت في الاعتبار أيضاً أمثولة كلّ من ماتيس ودوشان وليجي كما تأثّرت بقوة برسّامي الجدرانيات (graffitis) المكسيكيين الذين كانت أعمالهم الضخمة قد اكتسحت واجهات الأبنية في نيويورك. وفعلاً أوّل ما يميز التعبيرية المجرّدة هو اللوحات الكبيرة الحجم المطلية في معظم الأحيان كلياً بالألوان وفقاً لتقنية all over: كل ضربة ريشة تلغي الضربة السابقة وأثرها داخل اللوحة؛ تقنية تقود إلى توزيعٍ موحَّد للعناصر التشكيلية على كامل سطح اللوحة وأحياناً إلى امتداد هذه العناصر إلى خارج إطار اللوحة، الأمر الذي يلغي مشكلة الحقل الرسامي ويبرّز قيمة المادّة واللون المُستخدَم أيضاً كمادّة. وداخل هذه الحركة، يمكننا ملاحظة تيارين رئيسيين: تيار الرسم الحدثي (action painting) وتيار الحقل الملوّن (colorfield painting). رسّامو التيار الأول عملوا بشكلٍ عنيف ونفّذوا لوحاتهم بحركاتٍ سريعة وعفوية، ومن أبرز وجوهه جاكسون بولوك مع سلسلة «أصوات في العشب» (1946) ثم مع ابتكاره تقنية «التنقيط» (dripping) عام 1947، وويليم دو كونينغ انطلاقاً من عام 1952 وفرانز كلاين. وعبارة «رسم حدثي» استخدمها للمرة الأولى الناقد الأميركي هارولد روزنبرغ عام 1952 في مقالة له داخل مجلة «أخبار الفن»، قال فيها:»بدأ الفنانون الأميركيون، الواحد تلو الآخر، باعتبار اللوحة كعرينٍ يجب التحرّك داخله وليس كفضاءٍ يمكن فيه إعادة تشكيل أو رسم أو تحليل شيءٍ حقيقي أو خيالي. وبالتالي، ما نبلغه داخل اللوحة هو ليس صورة بل حدث». أما تيار «الحقل الملوّن» فتناول رسّاموه الزمن والهوية والعلاقة مع الطبيعة كمعطيات أساسية وسعوا إلى تجسيد إيقاعات عالمنا وتناغماته. ومن أبرز وجوهه مارك روتكو وكليفورد ستيل وبارنيت نيومان. وما يوحّد رسّامي التيارَين هو غنائية حركيتهم الرسامية، على اختلافها، وغنى الجانب المادّي لأعمالهم وتوقهم إلى تشييد عالمٍ بدائي ورمزي وتأكيدهم الانفعال كموضوعٍ مركزي لعملهم وسعيهم خلف القيَم الإنسانية والروحية ضمن بحثٍ عن مطلقٍ. ومن المواضيع الأخرى الحاضرة في أعمالهم: السكون، وحدة الفرد داخل المجتمع، القوى الحيوية أو المميتة الفاعلة في الكون... وفي هذا السياق تجدر قراءة الأشكال المحطّمة والرسوم المحتدَمة في لوحات دو كونينغ، والأشكال المجرّدة الضخمة في لوحات روبرت موزورْويل، والأشكال الأسطورية الأولية في لوحات أدولف غوتليب، والعالم النباتي والبشري في أعمال أرشيل غوركي... فكلّ واحد من فناني هذه الحركة طوّر أسلوباً خاصاً لكن ضمن تجريدٍ يوجّه النزوات الأوّلية ومصادر اللاوعي ويصالحها مع العمل الواعي بهدف التعبير عن كلّية الكائن البشري. طبعاً لا يمكننا اليوم إنكار دور الدعم المادّي والسياسي السرّي الذي لاقته هذه الحركة الفنية من الحكومة الأميركية، ومن الاستخبارات الأميركية تحديداً، في بلوغها الموقع الرائد الذي احتلته بسرعة داخل الساحة الفنية الدولية، وغاية هذا الدعم كان مواجهة الأسلوب الواقعي الاشتراكي الذي كان الاتحاد السوفياتي يروّج له. لكن ذلك لا يقلل من قيمة فنانيها الذين كانوا يجهلون كلياً حقيقة هذا الدعم، أو من قيمة اختباراتهم التي أثارت منذ البداية نقاشات حادة داخل الطبقة السياسية الأميركية وتعرّض أصحابها إلى مضايقات خلال مرحلة جون مكارثي واتهموا بالعمالة للشيوعية الدولية!