شبّه الديموقراطية ب «تراموي»، قائلاً إنها ليست هدفاً بل وسيلة، فالتراموي حين يصل إلى نهاية الخط يجب النزول منه! فهل ثمة متسلط من نوع جديد يوشك على الولادة؟ هذا السؤال يلخص مضمون الوثائقي الفرنسي «أردوغان، نشوة السلطة» لغليوم بيرييه وجيل كايات اللذين تنقلا بين تركيا وألمانيا والولايات المتحدة ليجريا العديد من اللقاءات مع مؤيدي وخصوم أردوغان ومع محللين نفسيين وسياسيين، كما استعانا بصور من الأرشيف وبعضها من شبابه، في محاولة لتحليل شخصية الرئيس التركي ورسم بورتريه شخصي وسياسي لرجل «مأخوذ بشهوة السلطة وممسك بمفاتيح الحل في الشرق الأوسط ويعتبر نفسه منقذاً للأمة التركية». يسرد الفيلم الذي عرضته المحطة البرلمانية الفرنسية LCP أخيراً تسلسلاً لمسيرة حياة رجب طيب أردوغان منذ طفولته في بيئة متواضعة حتى وصوله إلى قمة السلطة مروراً بانتصاره التاريخي كمحافظ لإسطنبول عام 1994. ويبدي الوثائقي جيداً علاقته المتوترة مع العسكر و «حقده الدفين عليهم»، معيداً هذا إلى فترة سجن أردوغان بعد التطهير الذي قام به هؤلاء في الأوساط الإسلامية عام 1997 وتنحيتهم آنذاك لأردوغان من منصبه وسجنه. ثم يتابع سرد مسيرة أردوغان بعد خروجه وتأسيسه لحزب العدالة والتنمية ووصوله إلى رئاسة الوزراء في بلد يعاني أزمة اقتصادية. يأتي ويعد بالاستقرار ويتخذ مظهر رجل عصري ورئيس من نوع جديد، ويحكي كثيراً بالحرية: حرية التفكير والتعبير والاعتقاد وحتى حرية المثليين. لقد «اصطنع لنفسه صورة رجل جريء فهو قريب من الأوروبيين وليبيرالي ومطالب بالإسلام السياسي وبالارتباط بالتراث العثماني، وشخصية كاريزماتيك انتزعت تدريجياً اللعبة من يد العسكر وأسكتت الكرد بجرعة من الاستقلال الثقافي». أما على صعيد السياسة الخارجية فقد بدا من الداعين إلى «طريق ثالث» يتحالف مع الغرب مع تمايزه عنهم. وقد استخدم حينها تحالفه هذا ليساعده في مواجهة العسكر، لكن الغرب تعالى عليه عندما كان يبدو مدافعاً عن الحرية، فيما اليوم، وهو يميل للاستبداد، يستدير نحوه بكل تسامح! وهكذا توجهت أنغيلا مركل إلى تركيا في الأشهر العشرة الأخيرة أكثر مما فعلت في عشر سنوات! ونجح أردوغان في فترة حكمه الأولى، لكنه في الثانية (2007) بدأ يدعم سلطته تدريجياً ويقسو في مواجهة معارضيه سواء كانوا من الأقليات أو من المثقفين أو الشباب أو الصحافيين والقضاة. ثم بعد انتخابات 2015، التي أعطت حزبه الغالبية البرلمانية وأيضاً بعد إخفاق انقلاب، بدأت سلطته تتعاظم ولم يقصر في الرقابة وإغلاق الصحف، واتهم نظامه بالفساد وبأنه متحكم وغير متسامح يقضي على كل الخصوم لدعم سيطرته، وأنه لا يحتمل أصواتاً تهاجمه أو تنتقده أو حتى تختلف عنه. وعن شخصيته أظهرت شهادات في الفيلم أنها شخصية مركبة متمكنة وخطرة والأنا متضخمة لديه، وأنه أبدى في فترته الأولى شخصية أخرى مختلفة لكنها كانت في الظاهر فقط. ففي العمق لم تتغير أفكاره. وأنه ليس مثقفاً، لكنه «داهية في السياسة»، فغريزة البقاء لديه قوية ويشم الأخطار من بعد ويتنبأ بها، وأنه ذكي ينجح بإقناع المستمعين له ولا يقبل الهزيمة! ويستنتج الفيلم أن أردوغان نجح في تطبيق استراتيجية أن الأمن لا يأتي إلا مع سلطة قوية وأنه الوحيد الضمانة أمام الاعتداءات التي تعرضت لها تركيا. كما استغل أزمة اللاجئين التي منحته ملايين اليورو وجعلت الأوروبيين «يكتشفون تركيا على خريطة أوروبا» وفق نائب ألماني. ولكن مع القضية الكردية والاعتداءات الإرهابية والحرب في سورية وتذمر الجيش وأزمة اللاجئين وظهور معارضة سياسية يبدو مستقبل أردوغان السياسي غير مستقر. وينتهي الوثائقي بالتساؤل عن مدة بقاء أردوغان في الحكم، فدورته الثالثة والأخيرة تشارف على الانتهاء. ويتهمه خصومه بأنه يلعب على الفوضى ليبقى في السلطة وقد «كنس حالياً كل العوائق التي تضعها الديموقراطية في طريق المستبدين»!