عرفت الفترة الفاصلة بين الدورة السادسة والثلاثين لمجلس وزراء الخارجية للدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، التي اختتمت أعمالها الاثنين الماضي في دمشق، وبين الدورة السابقة، أحداثاً خطيرة كان أبرزها العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة، واستمرار الحصار الخانق على الشعب الفلسطيني، واستهداف المسجد الأقصى المبارك، وانتشار ظاهرة الخوف من الإسلام على نطاق عالمي واسع، والإساءة إلى مقدسات المسلمين في العديد من الدول الغربية تحت مبررات حرية التعبير. لقد قام العمل الإسلامي المشترك، منذ أربعين سنة، على أساس من الدفاع عن الحقوق المشروعة للأمة الإسلامية في تحرير الأرض العربية المحتلة، وإنقاذ المسجد الأقصى مما يتهدّده من مخاطر محدقة به، والدفاع عن الإسلام ومقدساته، بالمعلومة الصحيحة والحوار البنّاء وبالفكر المستنير وبالحكمة والتبصر وبُعد النظر. ولقد بُذلت في هذا المجال الحيويّ، وعلى مدى عقود من السنين، جهودٌ مكثفةٌ متضافرة لابد من مواصلتها. وإن من الحقوق المشروعة أيضاً التي يتوجَّب على العالم الإسلامي الدفاع عنها، تحرير الإنسان من الفقر والمرض والجهل، وهو الثالوث الخطير الذي يُعدُّ من أهمّ أسباب ضعف العديد من المجتمعات الإسلامية في المجالات كافة. وهذا الضعف المتراكم الذي طال أمده، هو الذي يؤخر مع أسباب أخرى، تحرير الأراضي العربية المحتلة، ويتسبَّب في التراجع الحضاري العام الذي هر أحد ملامح العالم الإسلامي في هذه المرحلة. وعلى هذا الأساس، فإن العمل الإسلامي المشترك في هذه المرحلة الفاصلة، مطالبٌ بأن يسير في خطين متوازيين؛ السعي من أجل تحريرَ الأراضي المحتلة وردّ الحقوق المغتصبة إلى أصحابها الشرعيين، والعمل لإرساء قواعد متينة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتعليمية والتقانية. وبذلك تتكامل التنمية السياسية مع التنمية الشاملة المستدامة. وهو الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز التضامن الإسلامي الذي طرحه مجلس وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي شعاراً لدورته الأخيرة. التنميتان السياسية والاقتصادية عمليتان متكاملتان، إذ لا تنمية سياسية بدون تنمية اقتصادية اجتماعية تعليمية ثقافية علمية وتقانية عامة وشاملة. ولا تنمية اقتصادية متوازنة ومستقرة ومطردة، بدون تنمية سياسية بالمفهوم الشامل الذي يشمل مجالات العمل السياسي العام على الصعيدين الداخلي والخارجي. والعمل الإسلامي المشترك، في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، هو تنميةٌ حضاريةٌ شاملةٌ في الميادين كافة. أو هكذا ينبغي أن يكون، لا يقتصر على جانب دون آخر. ولذلك فإن النشاط الكبير والمتواصل ومتعدّد المجالات الذي تقوم به المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، هو جزءٌ أساسٌ من العمل الإسلامي المشترك في قنواته المتعددة ومجالاته المتنوعة، حيث تُعنَى الإيسيسكو أساساً ببناء الإنسان الذي هو القاعدة الراسخة لتجديد البناء الحضاري للعالم الإسلامي. ولقد وضعت الإيسيسكو إحدى عشرة استراتيجية تغطّي حقولَ المعرفة، تبدأ من تطوير التربية، وتنتهي بتطوير العلوم والتكنولوجيا والابتكار، مع آليات تنفيذها. وفي إطار هذه الاستراتيجيات، تمَّ تنفيذ مئات البرامج والأنشطة في الدول الأعضاء كافة، وفي خارج العالم الإسلامي حيث توجد المجتمعات الإسلامية، سواء أكانت أقليات تقيم في أوطانها، أو جاليات وافدة تعيش في بلاد المهجر. وبذلك تكون الإيسسيسكو تعمل وفق تخطيط استراتيجي محكم تساهم به في بناء مستقبل العالم الإسلامي في مجالات اختصاصاتها. وبموازاة هذا العمل الدؤوب للبناء الحضاري من الداخل، تنهض الإيسيسكو بمهمة على الصعيد الدولي من خلال تعزيز ثقافة العدل والسلام، وتفعيل الحوار بين الثقافات ودعم التحالف بين الحضارات، ونشر قيم التسامح والتفاهم والاحترام المتبادل، بالتعاون مع عشرات المنظمات الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك. وهو عمل يتكامل مع العمل الذي تقوم به المنظمات والمؤسسات العاملة في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. إنَّ العمل الإسلامي المشترك على تعدّد قنواته وتنوّع مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والعلمية والتقانية التي هي أساس البناء الحضاري للأمة والنهوض بها في الميادين كافة، هو الإطار الأمثل لتكامل جهود الدول الأعضاء وضمان فعاليتها. وقد بدأت الخطة العشرية التي اعتمدها مؤتمر القمة الإسلامي الاستثنائي المنعقد في مكةالمكرمة سنة 2005، تؤتي ثمارها في هذه المجالات، حيث استطاعت الإيسيسكو بدعم الدول الأعضاء لها وثقتها فيها، الإسهامَ بشكل فعّال ومطرد في هذا العمل الكبير، ممّا يُعدُّ رصيداً مهماً للعمل الإسلامي المشترك ينبغي دعمُه وتشجيعه ومساندته والاستفادة منه. ومما لا شك فيه أنَّ التكامل بين المسارين؛ المسار المتجه نحو تحرير الأرض المحتلة، والمسار المتجه نحو بناء الإنسان بالتعليم الجيّد المحكم الذي يربي المواطن الصالح ويعدُّه للقيام بالواجب تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه ومحيطه الخاص والعام، وبالثقافة الهادفة التي تنير الوجدان وتصقل النفس، وبالعلم النافع الذي يفتح الآفاق أمام العقل - التكامل على هذا النحو، هو حجر الزاوية في العمل الإسلامي المشترك، وهو المدخل إلى تعزيز التضامن الإسلامي. ذلك أن (التضامن) هو عملية تبادلية بين طرفين أو أكثر مثلها مثل (التعاون). فإذا كان (التعاون) هو تبادل العون بأن يعين طرف طرفاً آخر أو عدّة أطراف لتحقيق أهداف مشتركة تجمعهم، فإن (التضامن) هو تبادل (الضمان)، بما يقوي الثقة ويشيع الأمان الذي هو مصدر الأمن بمفهومه الواسع الشامل ودلالته العميقة. ولذلك كان تعزيز التضامن الإسلامي تقويةً وترسيخاً للوشائج التي تجمع بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. لقد ضاعت منا فرص كثيرة للبناء والنماء والرخاء، على مدى العقود الستة الأخيرة، نتيجة للسير في اتجاه واحد، وبعقلية لم تكن حصيفة بالقدر الكافي، وبإرادة متردّدة، وببوصلة لم تكن صالحة للاِستعمال. بينما كان الأمر يتطلب السير في اتجاهين معاً؛ السعي لتحرير الأرض، والعمل لبناء الإنسان، تعميقاً للتضامن الإسلامي، وإرساء لقواعد العمل الإسلامي المشترك. ومن أجل تدارك ما فات الأمةَ من فرص ثمينة، حرصت على أن أدعو في الكلمة التي ألقيتها أمام مجلس وزراء الخارجية في الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى التكامل بين التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتوازن بين العمل لتحرير الأرض المحتلة وبين السعي لتحرير الإنسان من الفقر والمرض والجهل، باعتبار أن ذلك هو المدخل الرئيس للتنمية البشرية الشاملة والمستدامة. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو.