تصريحات غير مألوفة أو تبدو غريبة تكررت أخيراً، يقول في إحداها صندوق النقد الدولي إنه يربط نمو الاقتصاد العالمي بقوة الدفع الآسيوية وليس الأوروبية والأميركية، وتتناول الثانية العرض الصيني المتكرر لمساعدة الاتحاد الأوروبي على تجاوز أزمته المالية التي تهدد عملته الموحدة اليورو. مثل هذه التصريحات تعكس القدرة الآسيوية المثيرة للإعجاب على مواجهة أبرز تبعات الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي، خصوصاً اقتصادات الولاياتالمتحدة ودول أوروبا الغربية خلال عامي 2008 و2009. ففي وقت كانت اقتصادات الدول المتقدمة ترتجف تحت وقع انهيارات المصارف وإفلاس الشركات وأخطار الركود، كانت دول آسيا تحقق نمواً زاد معدله العام على 6.5 في المئة خلال العامين المذكورين. وخلال العام الجاري تجاوز هذا المعدل سبعة في المئة في 45 دولة آسيوية تشمل الصين والهند وفيتنام وأندونيسيا وماليزيا، بحسب «البنك الآسيوي للتنمية». وفي أكبر بلدين من حيث عدد السكان، أي الصين والهند، تجاوز معدل النمو تسعة في المئة في الأولى وثمانية في المئة في الثانية. ويتوقع البنك معدلات نمو مماثلة خلال العام المقبل. ولم تشهد بلدان آسيا خلال الأزمة المالية العالمية معدلات نمو لافتة فقط، بل شهدت كذلك تنوعاً في صادراتها واستقراراً نسبياً في أنظمتها المصرفية ومديونية عامة تقل بأكثر من الثلث عن مثيلتها في البلدان الصناعية الغربيةوالولاياتالمتحدة. هذه المعطيات تدفع إلى القول بأن العام الحالي كان على الصعيد الاقتصادي عام آسيا بجدارة. غير أن الجدارة الآسيوية، باستثناء اليابانية، في مواجهة تبعات الأزمة المالية العالمية لم تبرز فقط في الأداء الاقتصادي المتميز على الصعيد الوطني، بل أيضاً في الدور المهم الذي لعبته دول كالصين في مواجهة هذه التبعات من خلال الاستثمار وتقديم القروض إلى الولاياتالمتحدة وبعض دول أوروبا كاليونان وإسبانيا لمنع مزيد من الانهيارات المالية والاقتصادية. وبرز الدور الذي لعبه الطلب الآسيوي المتزايد على السلع الغربية في شكل ساعد على منع الركود والانكماش، خصوصاً في دول مثل ألمانيا وفرنسا. هذا الدور الآسيوي المتزايد على الصعيد الاقتصادي العالمي دفع المحللين وصناع القرار إلى الحديث عن بداية تحول في موازين القوى الاقتصادية من أوروبا والولاياتالمتحدة لمصلحة قارة آسيا الفتية. ويدعم هذا الرأي تمتع هذه القارة بصناعة ديناميكية هي الأقدر على المنافسة وقوة عمل شابة تشكل أكثر من نصف عدد سكان القارة الذين يشكلون خمس سكان العالم. وتدعمه أسواق آسيوية كبيرة غير مشبعة يمكن تحقيق معدلات نمو عالية فيها من خلال حفز الطلب المحلي على مختلف السلع والخدمات المحلية والأجنبية. وفي المقابل تعاني الدول الصناعية الكلاسيكية من أسواق مشبعة وتراجع في دور صناعاتها وقدرتها التنافسية، إضافة إلى ارتفاع معدلات الشيخوخة في صفوف مواطنيها. كذلك تعاني من ارتفاع المديونية إلى نسب يُتوقع أن تصل إلى 140 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات العشر المقبلة، بحسب دراسة للمصرف الألماني «دويتشه بنك». ويُتوقع بقاء معدل المديونية بحدود 40 في المئة أو أقل في بلدان آسيا باستثناء اليابان. ومن شأن ارتفاع المديونية إلى أكثر من 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي أن يفرمل النمو الاقتصادي بسبب ارتفاع أعباء الفائدة، بحسب دراسة أجراها عالما الاقتصاد كينيث روغوف وكارمن راينهارات. وإذا أضفنا ارتفاع نسبة الشيخوخة في البلدان الصناعية، سيعني ذلك ارتفاع كاهل الفئة المنتجة التي قد يدفعها ارتفاع الضرائب والتأمينات للهجرة. لكن نجاحات آسيا في مواجهة الأزمة لا تعني نجاحها في تجاوزها في شكل نهائي لأن دول القارة الفتية ما تزال تعتمد في شكل كبير على الصادرات إلى البلدان الصناعية في تحقيق معدلات نموها العالية. وبما أن معدلات نمو الأخيرة ستبقى في حدود متواضعة خلال السنوات العشر المقبلة، بحسب «بنك ستاندارد تشارتر»، فإن حفاظ الدول الآسيوية على معدلات نموها العالية مرتبط بقدرتها على حفز الطلب المحلي من خلال زيادة القدرة الشرائية لغالبية شرائحها الاجتماعية. وما يعنيه ذلك أنه مرتبط بقدرتها على تخفيف الفروق بين الأغنياء والفقراء لمصلحة اكتمال نشوء طبقة وسطى تشمل الأرياف أيضاً وتشكل العمود الفقري لعمليتي التنمية والإبداع، كما كانت عليه الحال في أوروبا خلال الستينات والسبعينات من القرن العشرين. ومن التحديات التي تواجهها العديد من دول آسيا أيضاً ضبط وتيرة ارتفاع الأسعار والحفاظ على معدلات تضخم منخفضة في ظل معدلات النمو العالية. وعلى صعيد آخر فإن التغلب على الأزمة المالية في شكل نهائي مرتبط أيضاً بنجاح الدول الصاعدة وفي مقدمها الصين والدول الصناعية في تجنب حرب عملات بدأت أخطارها أخيراً على ضوء قيام حكومات الأولى بالتدخل المباشر لتخفيض أسعار عملاتها في مقابل الدولار واليورو من أجل ضمان استمرار تدفق صادراتها وتراكم فوائضها التجارية التي وصلت في الصين إلى أكثر من 2.5 تريليون دولار. وأخيراً وليس آخراً لا ينبغي نسيان الأخطار التي تواجه النمو الآسيوي نتيجة التوترات القائمة بين الكوريتين أو بين الصين وكل من اليابان وتايوان. ويبدو التوتر في شبه الجزيرة الكورية الأكثر حدة، إذ يهدد اندلاع حرب تجر إليها تحالفات إقليمية ودولية. ومن شأن حرب كهذه تقويض أجواء الثقة في شرق آسيا، وتهديد النمو الاقتصادي فيها سنوات طويلة. لكن ما الذي قد يعنيه الصعود الاقتصادي الآسيوي في شكل عام والصيني في شكل خاص للعالم العربي؟ إن أول ما يعنيه ذلك هو كسر نهائي لاحتكار الغرب للتكنولوجيا العالية التي تُستخدم كأداة لضغوط سياسية وتؤثر في شكل سلبي للغاية على النمو الاقتصادي في الدول التي تواجه عقوبات غربية. ومن جملة ما يعنيه كسر الاحتكار هذا تأمين خيارات أوسع لتحديث البنى التحتية والتعليمية في الدول العربية. غير أن إنتاج الصين وشرق آسيا لهذه التكنولوجيا لا يعني وضعها في شكل أوتوماتيكي في خدمة البلدان الأخرى ومن بينها الدول العربية، لأن المصالح ستتحكم في النهاية بوجهة بيعها أو بكيفية الحصول عليها. وفي كل الأحوال فإن كسر الاحتكار بالنسبة إلى العالم العربي يعني في كل الأحوال إيجاد فرص أفضل لنقل المعارف والتكنولوجيا إلى دوله، خصوصاً إذا تم ذلك في إطار تكتل أو تكتلات عربية تترك القضايا الخلافية السياسية جانباً، وتركز على القضايا الوفاقية الاقتصادية وما أكثرها. وسيقع العالم العربي بين فكي كماشة النفوذين الغربي والآسيوي. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية