البحث عن الشهرة قد يُعمي الأبصار، لكننا لم نتصور أن ينزلق الحوار «الفكري» إلى تجاوز كل الخطوط الحمر، فقد تحدث المتحاورون في أحد البرامج التلفزيونية (الذي كان ضيفه الرئيس صاحب الأنساق الباحث عن الأضواء) عن هوية «الدولة»، وهذا ما لم نكن نتصور حدوثه على الإطلاق، إذ إنه موضوع غير قابل للنقاش، بل إن تناوله يعتبر ضرباً من ضروب التهور، فقادة هذه الدولة أكدوا – وما زالوا يؤكدون - على هذه الهوية التي أصبحت جزءاً من هويتنا الوطنية، ولكن يا تُرى من السبب في وصول الأمر إلى هذا الحد؟ حسناً، سأزعم أن «التصنيف» الذي يمارسه أتباع «الإسلام الحركي» هو السبب الرئيس، وذلك لأنهم يؤمنون بضرورة خلق عدو يخيفون به البسطاء لتتسنى لهم السيطرة على المجتمع، وبالتالي التدخل في كل شؤونه، ونعلم أن بقايا تنظيم «الإخوان المسلمين» من بعض البلدان العربية - الذين آواهم الوطن بعد أن ضاقت بهم الأرض بما وسعت - هم الذين أسسوا هذا الفكر وزرعوا بذرته الأولى حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه، إذ إن "تصنيف" أبناء المجتمع الواحد إلى فئات متصارعة جزء من هذه اللعبة الكبرى. يخطئ من يتهم السلفية بأنها مسؤولة عن «التصنيف» أو «العنف والإرهاب»، ف «السلفية» – منه ما هو «السلفية النقية»، وهي براء من ذلك. وعندما أعود بالذاكرة إلى الوراء أسترجع تلك الصور «البهية» لأولئك الذين يمكن أن نسميهم: «السلفيين الأنقياء» – جيل الآباء والأجداد - الذين كانوا متسامحين مع الناس ومتصالحين مع أنفسهم، إذ كان موظف الهيئة يأمر الناس بالحسنى ويحسن الظن ويغلب «جوانب الخير» في عمله، وكان إمام المسجد يقبل الأعذار لشاب تكاسل عن أداء الصلاة، وكانوا يمرون بالأسواق ويرون المرأة تبيع وتشتري فلا ينكرون عليها، بل إنهم يساعدونها بكل ما تحتاج، خصوصاً إذا كانت أرملة، ولا يمكن أن يمحى من ذاكرتي منظر ذلك الشاب الذي تسبب في حادثة مرورية في حارتنا العتيقة وكان في حال غير طبيعية، ومع ذلك فإن جماعة المسجد الذين شهدوا الحادثة - بمن فيهم الإمام - حرصوا على ستر ذلك الشاب حتى عاد إلى حالته الطبيعية، وقد كان ذلك سبباً في هدايته ما تبقى من عمره، فهذه هي صور إيجابية لتلك «السلفية» التي يحاول «الحركيون» دوماً أن يلصقوا أعمالهم «المسيّسة» بها، ما يتسبب بالإساءة إليها بالداخل والخارج. إن هذا التصنيف الذي يمارسه «الإسلاميون الحركيون» على نطاق واسع هو الذي أوصل الأمور إلى مستوى النقاش العلني عن هوية الدولة، ولولاه لما رأينا بيانات الحركيين ولا خطبهم ولا زئيرهم في وسائل الإعلام، وهم في كل ذلك يزعمون أنهم يقفون ضد مخططات تقف وراءها فئات من أبناء المجتمع، فمرة هم «العلمانيون»، ومرة هم «الليبراليون»، وأخرى هم «التغريبيون»، هذا فضلاً عن «الحداثيين»، وهم يعلمون أن أبناء الوطن مسلمون بالفطرة والتنشئة، وأنه لا وجود لمثل ذلك إلا في مخيلاتهم، ولكنهم يفعلون ذلك – مع سبق الإصرار - لأهداف لا تخفى على المتابع. هل يستطيع أحد أن يتذكر بياناً يحرض على فئات «مصنفة» من أبناء الوطن خلال الفترة التي سبقت ظهور ما يسمى بالصحوة؟! وهل تذكرون «سلفياً حقيقياً نقياً» قام بعمل إرهابي؟! وللمعلومية فإن أحد أشهر «الحركيين» هاجم السلفية من على منبر إحدى الفضائيات، فهل يستغرب من مثل هذا أن يسعى لمناقشة هوية الدولة؟ ولئن كانت ذاكرته قد تجاوزت ذلك الأمر، فإن ذاكرتنا لا تزال عامرة به! مهما حاول التخفي والتلون. وختاماً: نقول ل«الحركيين» وأشياعهم من المثقفين، الذين يحاولون العودة إلى الأضواء ولو عن طريق تصنيف أبناء المجتمع: «توقفوا فعندما تناقشون «هوية الدولة» علناً فإن الأمر يصبح خارج نطاق السيطرة، لأن هذا الأمر غير قابل للنقاش والجدل». [email protected]