بعيداً عن صخب المدينة وضجيجها، يكسر عدد من الناس الروتين اليومي الممل هرباً من ازدحام الشوارع، مخلفين وراء ظهورهم إشاراتها المرورية وأدخنة عوادم مركباتها التي تزكم الأنوف، وأصداء وأنين سيارات الإسعاف الذي لا يكاد أن ينقطع عن المسامع، وغاباتها الأسمنتية الشاهقة، وصرير عجلات التقدم والتطور وكل ما جاءت به التكنولوجيا، متجهين إلى مناطق صحراوية، رحب صدرها، شاسعة مساحتها، واسعة فجاجها في صيف كان أم شتاء، إذ يجدون هناك ضالتهم وهواء طلقاً وسعة صدر وراحة بال. وبعيداً عن حياة «المدينة» الصاخبة وأنوارها التي تحجب النجوم في مجراتها، تبدأ في اجتماع الأهل والأصدقاء في الصحارى ساعات الأنس ولحظات الفرح حول نار تجلي عمش العيون، وسوالف تختزل الذكريات وتبعد عن الأنفس الهمّ والظنون، متسامرين حتى اشراقات الصباح الباكر، حاملين معهم كل ما يلزمهم من ماء وطعام ووسائل ترفيه لصغارهم من دون تخطيط مسبق، إذ هذا هو روتينهم اليومي وديدن الكثير في طلعات «البر» التي لا يحس بمتعتها إلا من اعتادت نفسه عليها ووجد في فجاج صحاريها ضالته وحفظ دروبها في ليل أو نهار تاركاً خلفه كل ما يكدر صفو الحياة. وعلى رغم أن أكثر تلك الطلعات تنحصر على الأسر والعائلات، بيد أن الشبان «العزاب» هم الآخرون لهم نصيب الأسد في ذلك، إذ تعتبر المناطق الصحراوية البعيدة عن المدن متنفسهم الوحيد في ظل ما يواجهون من قل في إمكانات الترفيه داخل المدن بعكس العائلات التي ترتاد في نهاية الأسبوع وجميع العطلات الحدائق والأماكن العامة والأسواق الكبيرة والمتنزهات التي يمنع الشبان من دخولها، ما جعل البر بديلهم الأمثل الذي يجدون فيه ضالتهم. وتجولت «الحياة» في مناطق شاسعة ورصدت آراء الكثير من الأسر والعزاب في الطائف عن طلعات البر والهروب من صخب المدينة وضجيجها. وفي جلسة سمر استدار فيها مجموعة من الشبان حول نار خففت لهيبها نسمات الهواء الباردة وكشف وهجها ملامح وجوه مستأنسة مع خيوط الظلام الأولى يعمل على خدمتهم أصغرهم سناً بصب القهوة العربية على رفاقه وعابري السبيل، وما إن ينتهي حتى يضعها مرة أخرى على الجمر في منظر يذهب بالعقول للماضي البعيد (ماضي الأجداد)، راسماً في الواقع عاداتهم اليومية وتقاليدهم التي عجزت الأيام والليالي عن محوها على رغم أننا في القرن ال21 إذ لا يفصل بيننا وبين أيامهم التي خلت سوى عادات دخيلة قبلها من قبلها ورفضها من رفضها، هناك حول تلك النار التي تسر الناظرين وقودها من الحطب. في خضم ذاك المشهد، قال فهد العتيبي ل «الحياة»: «بعيداً عن عدم توافر متنزهات وأماكن ترفيهية للشبان، فإن وجودها لن يثنينا عن طلعات البر التي أعشقها ويعشقها غيري الكثير وقد يكون للطبيعة وتكويناتها دور في ذلك، ارتبطنا بها ارتباطاً وثيقاً إذ لا يحد المدن والقرى التي نسكنها سوى هذه الصحارى الشاسعة التي نعشقها عشقاً جنونياً، فهي لنا بمثابة البحر الذي تقع على إطرافه مدينة جدة أو الدمام، وبكل ما يحتويه ذلك البحر من لؤلؤ ومرجان ودرر، فإن صحارينا هي الأخرى تحوي اللؤلؤ والمرجان والدرر بالنسبة لنا، فضلاً عن أن هذه الأرض هي مسقط رؤوسنا نمشي عليها أحياء وندفن في ثراها جثثاً هامدة». ويجاذبه الحديث شقيقه نواف: «مللنا من المدن وزحامها، بيد أن الصحراء بالنسبة لنا هي الحياة والمتنفس الوحيد، إذ حينما يسدل الليل ستاره نخرج كل يوم في مجموعات، لقضاء أجمل الأوقات وأمتع اللحظات ما بين سمر وشواء ومزح ومرح».