الإنسان هو حلقة في سلسلة طويلة من التطور، مضت منها جملة حلقات وبقيت جملة حلقات آتية هي عبارة عن إنسان المستقبل، ممَ يبعث التفكير في إنسان الحاضر وإلى أين يتجه؟ هل يسير نحو مزيد من التطور والارتقاء؟ أم سيقف عند حاله؟ أم ينحدر إلى أسفل من حاله؟ وقد صنفت هذه السلسلة من كثير من الفلاسفة والمفكرين من أمثال جوتيه ونيتشه وبرناردشو، وهذا الأخير كان يسميها ب«ديانة التطور»، وهي الديانة البيولوجية القائمة على أصل الإنسان واتجاهه ومستقبل كفاءاته الجنسية والغريزية والذهنية، فالناس يسرفون في الإقبال على الزواج ويهملون التحري عن نوعه، في تسطيح كبير لمفهوم الزواج وما سينتج منه من تناسل، فهل دُقق فعلاً عند الاختيار في الصفات الوراثية التي يحملها الزوجان والأبناء من بعدهم؟ طبعاً لا نقول إن الارتقاء بالنوع يقف على عامل الوراثة وحده، وإلا نكون بذلك مؤيدين لنظرية داروين، وكأن الوسط البيئي لا قيمة له في التطور، فالإيمان المطلق بالوراثة وأنها السبب الوحيد في التغيير، ينتهي باستبداد وقوانين فيها تميّز في الحقوق، بل قد يؤدي إلى إهمال الوسط تماماً، على اعتبار أننا مهما بذلنا من محاولات لتحسين هذا الوسط، فإن الارتقاء به لن يؤثر في الارتقاء بمن عاش فيه، وقد ننتهي إلى ما هو أسوأ، فنصنف هذا عاقل بالوراثة، وذاك مجنون بالوراثة، هذا عبقري، وذاك معتوه، وكأننا بذلك نكف أيدي المصلحين وأصحاب الدراسات عن جهودهم الفردية والجماعية للإصلاح والتغيير، ألم تصبح الوراثة قدراً لا مفر منه؟ لا ليس هذا ما نقصده، وإنما (أرجو من قارئي ألا ينزعج من مثالي) حين نرغب في إنتاج سلالة جديدة من الخيول أو الحمام أو أو..، ألا نلجأ إلى الوراثة نستعين بها للتلاقح بين كائنين نجد أن صفاتهما أقرب ما تكون إلى الهدف الذي نسعى إليه؟ إذاً هناك تفكير ووعي مسبق بما نريد، وعلى أساسه كان التلاقح كي نحصل على النوع المنشود أو قريب منه، فلمَ لا يُراعَى هذا الأمر مع الإنسان، وهو من باب أولى مكرّم عن الحيوان؟ الإشكالية كما أراها، أننا مع الحيوان نعرف هدفنا؛ جواد للجري أو لقفز الحواجز... بقرة للحلب أو لولادة ضخم العجول، ولكن أمر الإنسان ليس بهذا التحديد الواضح، فنحن عادة لا نعرف ما نريد ولا كيف نهتدي إليه! ومع ذلك أعود إلى قول نبي الأمة عليه الصلاة والسلام: «تخيّروا لنطفكم... »، فلو لم يكن من سبيل ولا من فائدة فلم إذاً قيل؟ وإنما المعنى هو التأني عند الاختيار، حتى نعرف من تصلح لتكون أماً لأبنائنا ونرتضيها، أو يكون أباً لهم ونرتضيه، فكلما كان نصيب المرء من الصفات السليمة والطباع الحسنة كبيراً كانت عيوب النسل أقل، ولا يكفي أن يكون المرء ذكياً كي يتصرف بذكاء، فقد يكون ذكياً ويقدم على زواجٍ أحمقَ من طرف آخر قد يناسب غيره، ولكنه حتماً لا يناسبه، ليستمر عدم التوفيق فينتج منه أبناء يدفعون حياتهم ثمناً لغباء أبويهما وعدم نضجهما (أو عدم حريتهما) عندما عنت لحظة الاختيار، وإلى يومنا وجلُّ مواصفات العروس أن تكون «بنت حلال»، وكأن بنت الحرام هي الأصل، وإلى يومنا وجمال المرأة هو الأهم، ومال الرجل هو الأهم، ولم أسمع من أتى على ذكر الطفل حامل الجينات «حمّال الأسية»، أما الحضارة التي هيأت لنا حياة مختلفة، فقد حسّنت من محيطنا نعم، ولكن هل دخلت في صميم تركيبنا البيولوجي والإنساني؟ فنحن أرقى مساكن من كهوف عشناها، ولكن هل اختلفت عقولنا كثيراً عمّا كانت عليه قبل آلاف السنين؟ أخطر ما في الإنسان هو ما نجهله فيه، فلا نعيثها فوضى فوق ما هي فوضى بفوضوية اختيارنا. [email protected]