في الطريق من القاهرة إلى صعيد مصر، وأمام قرية العطف التابعة لمركز العياط جنوب العاصمة، وُضع كُرسي في منتصف الطريق السريع المزدوج الضيق، أعلى مطب صناعي يظهر أن الأهالي أقاموه، لعدم اعتماد أي معايير فنية في تصميمه، ومُثبت على الكرسي صندوق كُتب عليه بوضوح: «تبرعوا لبناء المسجد». وعلى جانب الطريق جلس في مواجهة الصندوق رجل ملتحٍ، يرقب الصندوق، الذي يبدو أن حصيلته عامرة. تلك القرية تقع في أقصى جنوبالجيزة، حيث بداية الطريق إلى صعيد مصر المُهمش اقتصادياً واجتماعياً. وبعد تلك القرية ببضع كيلومترات يبدأ مدخل الطريق إلى محافظة الفيوم، التي تُعد قراها من معاقل الإسلاميين ومنها ينحدر الانتحاري محمود شفيق الذي فجر الكنيسة البطرسية في القاهرة أواخر العام الماضي. وفي الطريق من القاهرة إلى الفيوم هوت أعمدة إنارة بسبب موجة من الطقس السيء قبل أيام، تلك الأعمدة نفسها كانت منشورات مُلصقة عليها تحمل بيانات ضباط في الشرطة مسؤولين عن مكافحة العنف الذي اتبعته جماعة الإخوان نهجاً بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، وتهديدات بتصفيتهم، وعلى هذا الطريق قُتل ضباط وأفراد في الأمن اغتيالاً إبان تفشي العنف قبل لجمه إلى حد كبير في الدلتا ومحيطها. سوء الأوضاع الاجتماعية والفقر المدقع بادٍ منذ مغادرة حدود مدينة الجيزةجنوبالقاهرة عند حي المنيب حتى الوصول إلى أقصى صعيد مصر، حيث قرى جنوب محافظة قنا التي خرج منها معظم أفراد خلية «داعش» المسؤولة عن تفجير كنيستي الإسكندرية وطنطا الشهر الجاري. تلك القرى المحاصرة بأطواق أمنية عدة لمنع تسلل المتهمين بالانتماء إلى تلك الخلية، ليس جديداً عليها تلك الإجراءات الأمنية المشددة، فقبل نحو 20 عاماً شهدت القرى نفسها حصاراً أكثر ضراوة خلال المواجهات بين السلطات والجماعة الإسلامية التي انتهجت العنف قبل إعلان مبادرة لوقفه، وخرج معظم قادتها من المنطقة نفسها واستوطنوها في حربهم ضد السلطات. في جنوبقنا في أرمنت يسكن القيادي السابق في الجماعة الإسلامية حسين شميط، الذي اتهم في محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك في أديس أبابا في التسعينات وعاد من منفاه بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) من العام 2011. شميط الذي أقر مبادرة وقف العنف، لم يعد ينخرط في أي نشاط سياسي أو ديني ويعيش في أمان، طالما الأمن واثق من ابتعاده عن أي نشاطات مريبة. وفي قرية في جنوبقنا أيضاً استقبل رئيس مجلس شورى «الجماعة الإسلامية» رفاعي طه، الذي قُتل في سورية قبل أشهر عدة، استقبال الفاتحين في العام 2013، بعد إطلاقه من السجن الذي قضى فيه سنوات عدة بعد أن سلمته السلطات السورية إلى مصر، وأصر على رفض مبادرة وقف العنف. وفي نجع دنقل في أرمنت اعتاد أمير الجماعة الإسلامية عمر عبدالرحمن، الذي توفي العام الحالي في محبسه في أميركا، إلقاء خطبه في مسجد صغير في القرية الفقيرة، التي ينحدر منها أيضاً عبدالكريم النادي المسجون في إثيوبيا لتورطه في محاولة اغتيال مبارك. وقبل أيام قضت محكمة جنايات بسجن إمام مسجد في قرى جنوبقنا بسبب ترويجه لأفكار تكفيرية. وقال القيادي السابق في «الجماعة الإسلامية» ناجح إبراهيم، وهو منظر مبادرة وقف العنف، ل «الحياة»، إن شخصية أهالي قنا تتسم بالصبر والطيبة والصلابة الشديدة في الوقت ذاته. وأضاف: «كانت قنا ناصرية متشددة ثم إسلامية متشددة. الشخصية الصلبة هي سمة أهالي قنا، لدرجة أن المحكومين بالإعدام من أعضاء الجماعة من أهالي قنا، كانوا يواجهون مقصلة الإعدام بصلابة لافتة خلال فترة الثمانينات والتسعينات. لا يهابون الموت، وظلوا يكبّرون أثناء اقتيادهم إلى المقصلة». وأشار إبراهيم إلى أن تلك السمات الشخصية إضافة إلى تردي الخدمات المقدمة لأهالي قنا ونقص التوعية ساعد في تحولها إلى مركز جذب للأفكار المتشددة، لافتاً إلى أن محافظة قنا، خصوصاً جنوبها، له سمات تختلف عن معظم محافظات الصعيد الأخرى، فكثير من أهالي الصعيد هجروه إلى القاهرةوالإسكندرية وانخرطوا في نشاطات تجارية واقتصادية وحققوا نجاحاً كبيراً، خصوصاً أهالي سوهاج وأسيوط، لكن هذا لم يتوافر لأهالي قنا. وأضاف أن قنا اشتهرت بزراعة القصب، فأكثر من 80 في المئة من مزارع القصب توجد في قنا، وهذا ساعد أيضاً في تحولها لمركز مهم لأعضاء الجماعة الإسلامية في القرن الماضي. وقال إن «مزارع القصب كانت تحدياً بارزاً لقوات الأمن، لما تمثله من نموذج فريد للاختباء والتخفي. هربت فترة في مزارع القصب، ولو أن القوة الأمنية على بعد متر من الفارين لن تتمكن من رؤيتهم بسبب تشابك زراعات القصب، التي أزال الأمن كميات كبيرة منها في إطار المواجهة مع الجناح العسكري في الجماعة الإسلامية... كانت هناك ملاجئ وخنادق تحت الأرض في تلك الزراعات يصعب اكتشافها»، لافتاً إلى أن الكثافة السكانية الآن جعلت المتشددين والمطلوبين يتخفون في شقق سكنية بدلاً من الزراعات. وقال إبراهيم إن «داعش» أعلن منذ أكثر من عام أنه يعتزم تكوين خلية في الصعيد، واختار قنا بسبب كل تلك الأسباب، مضيفاً: «بعد كشف الخلية الأخيرة سيضع الأمن يده على كل الخلايا المرتبطة بها في الصعيد، خصوصاً في قنا، لكن الأمن لا يجب أن يتوقف عند حد المواجهة الأمنية، فأي جهاز أمني لا يمكن أن يظل مستنفراً في شكل دائم، وهنا يجب البحث عن استراتيجية متكاملة من أجل تحويل الشخص المتطرف إلى وسطي. هذا هو التحدي الحقيقي. كيف نحول المتشدد المتطرف إلى إنسان وسطي قادر على التعايش والاندماج في المجتمع». ولفت إبراهيم إلى أنه يجب إقرار مبادئ وآليات تلك الاستراتيجية أولاً وتنفيذها سريعاً، لأن وجود التطرف في الصعيد، خصوصاً قنا، أمر بالغ الخطورة، فالبيئة تسمح بتمدده، فضلاً عن أن «الأهداف المغرية الرخوة» في الأقصر وأسوان كثيرة جداً، ما يشكل خطراً داهماً على قطاع السياحة الحيوي بالنسبة للاقتصاد المصري.