أخيراً سيكون للفن التشكيلي العربي متحف شامل. بعد أكثر من مئة عام على بدء المحاولة الفنية العربية وفق الأساليب التقليدية الأوروبية، وبعد أكثر من ستين سنة على انفتاح الفن العربي على المدارس الفنية الحديثة، الغربية هي الأخرى، ها هي محصلة كل تلك الجهود الإبداعية (لنقل جزءاً كبيراً منها) تتبلور على هيأة كنز، ظهر بعد سنوات طويلة من عمليات البحث والتنقيب والتنقية والمراجعة والتصنيف في (الدوحة)، حيث ستقوم مؤسسة قطر بافتتاح متحف الفن العربي الحديث. وهو حدث قد يكون مفاجئاً من جهة المكان الاستثنائي. حيث كانت الكثير من العواصم العربية (على سبيل المثال: القاهرة، دمشق، بيروت، بغداد قبل حصارها واحتلالها) مهيأة لإقامة مثل هذا المتحف أكثر من الدوحة. فتلك المدن عُرفت ومنذ الخمسينات برعايتها للفنون واهتمامها بالمستجدات الفنية عربياً وعالمياً. كان الفن فيها (لا يزال في بعضها) جزءاً من سياق فكرة العيش المديني، فكرة الانسجام الداخلي مع حضارة قادمة، وكانت الحاضنة الثقافية فيها لا تكف عن انتاج أجيال من الفنانين المبدعين. وكانت قاعات العرض في تلك المدن تستقبل معارض كثيرة قادمة من مختلف انحاء الوطن العربي. يكفي أن نتذكر هنا بينالي بغداد للفن التشكيلي الذي بدأ عام 1986 الذي لم يستمر إلا لدورتين بسبب الحصار الذي فرض على العراق عام 1991 وبينالي القاهرة الذي لا يزال يُجدد حساسيته الجمالية وفق آخر مستجدات الحراك الفني في العالم. ولا بأس أن نذكر ملتقيات فنية كانت تجرى في أصيلة والمحرس وجرش والإسكندرية. اما العاصمة القطرية فإنها لم تعرف من الفن إلا من خلال ما انبعث من جهود قلة من أبنائها الذين كافحوا من أجل التبشير بعلو مقام بضاعة روحية، كان من سوء حظ الساهرين عليها أنها حضرت في زمن غرقت فيه المجتمعات الخليجية في فيض من الاستهلاك المادي. وأذكر هنا المحاولات الريادية لجاسم زيني، يوسف أحمد، حسن الملا، حسن علي، عيسى الغانم. ولكن في خفايا ذلك المشهد كان هنالك ما يُدبر بسبب شغف عظيم بالفن. كان ذلك الشغف بطولياً يرتجل توقه لجمع ما لا يمكن أن يكون مصدراً للثروة المادية في سياق تربوي شائع في مجتمع انتقل فجأة من الصحراء إلى المدن العالية دون المرور بالأرياف. بسبب ذلك الشغف الاستثنائي الفريد من نوعه صارت ثروات خيالية تتسرب إلى مخازن سرية في الدوحة. وهي مخازن كانت تنعم بخيال تاريخ روحي لشعب تمتد رؤاه من الخليج الى المحيط. سيُقال: حدث متأخر. نعم لقد تأخر العرب كثيراً في اقامة متحف شامل لفنهم التشكيلي. غير أن ذلك التأخر لا يقلل من قيمة ذلك الحدث الكبير على المستوى المستقبلي. المعنى الأساسي لإقامة ذلك المتحف يشير إلى أن هناك مكاناً محدداً يمكننا من خلال زيارته أن نطلع على كبرى التجارب الفنية العربية وعلى تفاصيل ما جرى فنياً من تحولات على مسافة آلاف الكيلومترات، عرضاً وطولاً، عاش عليها العرب باعتبارهم مشاركين في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة. وهو يغطي التجربة الفنية العربية عبر أكثر من مئة سنة. وهي المرة الأولى التي يحدث فيها أن يكون لفننا متحف. ستكون هناك ثغرات في التسلسل التاريخي. سنجد مواقع ضعف في الرؤية النقدية، سنرى أعمالاً ضعيفة ونحن نتذكر أعمالاً قوية غائبة. قد لا يصاحب العروض ايضاح يبين بعدها النظري الخلاق والمغير. نتوقع الخلل في كل خطوة ريادية، ولكن المتاحف كلها لن تنجو من النقد. هناك اليوم رؤية نقدية لا تستسيغ المتحف كياناً ثابتاً، مكاناً ينتمي إلى الماضي، جثة يتم استحضارها حين الطلب. وهي رؤية قد لا يستطيع متحف الدوحة مجاراتها، باعتباره خطوة رائدة لا ينبغي النظر إليها باعتبارها تمثل حقيقة مثالية. ذلك لأنها تأسست في اطار شغف شخصي، لم تكن المؤسسة، أية مؤسسة، راعية له. اتيحت لي لسنوات أربع فرصة أن أكون قريباً من طقوس التفكير بإنشاء ذلك المعبد الخيالي. كنت أرى الأعمال الفنية يومياً. كنت مثلها ضيفاً. لم أشأ أن أذهب مثلها إلى المخزن فسافرت إلى أوروبا ولم أعد. غير أن مشهد تزاحمها لم يغادر عيني بعد أن صار جزءاً من عاطفتي اليومية. لقد رأيت يومها أعمالاً أصلية لمحمود سعيد وجواد سليم وأحمد الشرقاوي ولؤي الكيالي وداود القرم وصليبا الدويهي وشاكر حسن ال سعيد ورمسيس يونان ومحمد المليحي وفاتح المدرس وآدم حنين وحامد ندا وضياء العزاوي وفريد بلكاهية وحسين ماضي وسواهم من الرسامين الذين قُدر لهم أن يؤسسوا لذائقة عصرنا العربي جمالياً ويغيروا طريقتنا في النظر إلى الأشياء. تلك الأعمال المؤثرة ستكون مادة متحف الفن العربي في الدوحة. وهي مادة لم تكن ميسرة إلا بفضل ذلك الوله الاستثنائي العميق الذي تمكن من الشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني إزاء ممارسة ابداعية لم يكن محيطه الاجتماعي يوليها قدراً من الاهتمام. لقد عرفت ذلك الرجل عن قرب وكانت نظرته الصفائية إلى ما يفعل محط اعجابي. وإذا ما كانت مقتنياته الفنية تعبر يومها عن ذائقته الشخصية فإن نظرته إلى التاريخ (وهو اختصاصه الأكاديمي) جعلته في كثير من الأحيان يعطل ذائقته الجمالية لينصت إلى الصوت المختلف. صوت الحقيقة التاريخية الذي لن يكون مطابقاً لما يريده شخصياً. وكما أرى فقد كان هناك، في تلك المقتنيات، نوع من الإنصاف الضروري الذي سيكون في ما بعد مصدراً للتوازن. ليس من حق أحد أن يزعم أن الفن العربي كله سيكون ممثلاً في ذلك المتحف. غير أن ما أنا على يقين منه أن ذلك المتحف لم يخطئ هدفه. هناك استعادة استثنائية لعبقرية الوعي الخلاق ولقوة البحث في معنى اللحظة البصرية عربياً عبر سنوات وثّقها التاريخ باعتبارها زمناً للهزائم. اعتقد أن هذا المتحف يحمل في طياته شيئاً من اعادة الاعتبار للعرب، في صفتهم أمة مبدعة.