شرود مفاجئ انتاب إيمان كوركيس حينما وقع نظرها على ذلك البهو الصغير خلف المنزل، فكانت تسمع ضحكات أولادها الثلاثة وهم يلهون في المكان منذ سنوات قبل أن يوقظها صوت زوجها بطرس: «لنكمل توضيب بقية الأغراض، فالسيارة ستنطلق فجراً وليس أمامنا سوى ساعات». إيمان، التي مرت ذكريات جميع فترات حياتها كشريط متسارع في اللحظات التي كانت تودع منزلها للمرة الأخيرة في حياتها، قررت أن تغادر البلاد الى إحدى دول الجوار خوفاً من التعرض للاستهداف، وعائلتها واحدة من عشرات العائلات المسيحية التي قررت المغادرة عقب حادثة كنيسة «سيدة النجاة». تقول إيمان إن عائلتها فكرت بعد الحادثة الأليمة في الرحيل وطلب اللجوء الى إحدى الدول الأوروبية التي سمحت باستقبالها، بعدما طالبها ولداها تومي وفادي بالإقدام على هذه الخطوة، حيث سيقومان باستضافة عائلتهما بعد ترتيب كفالة لهما من مجنسين في البلد الذي يقطنان فيه. وعلى رغم الإقبال الكبير على الهجرة من قبل العائلات المسيحية، إلا أن بعضاً منها يرفض، ويفضل النزوح الى إقليم كردستان في شكل موقت. ويستأجر النازحون منازل صغيرة في الإقليم في شكل موقت حتى استقرار الوضع الأمني في بغداد، فيما يعود الكثيرون منهم الى قراهم الأصلية يرممون منازل الأجداد هناك والعيش فيها لشهور ومراقبة الأوضاع من بعيد. وعلى الجانب المقابل لمنزل إيمان، غطت الأوراق المتساقطة من أشجار الرمان باحة أحد المنازل المغلقة، وبدا من الأتربة التي استقرت فوق الأرضية والأقفال الكبيرة التي أَغلقت بإحكام مجموعةً من سلاسل حديد مثبّتة على الباب الرئيس للمنزل ومداخله، أن ساكنيه غادروه منذ شهور. الساكنون في الجوار أكدوا أن المنزل يعود لإحدى العائلات التي غادرت البلاد حديثاً وفضلت إغلاق منزلها وعدم بيعه قبل ضمان الهجرة، إذ قد تغير العائلة رأيها في حال تحسنت الأوضاع في البلاد وأصبح المسيحيون بمنأى عن التهديدات. أسر أخرى لا تزال تستعد للمغادرة ولم تستكمل إجراءات النزوح، ومنها أسرة أبو ماري، الذي لا يزال يحتفظ بمنزل صغير في زاخو في محافظة دهوك ورثه عن الأجداد، لكنه فضل أن يحل ضيفاً على بيت شقيقه في عين كاوه في أربيل. يقول أبو ماري (68 سنة) إن شقيقه «ألحَّ عليه في العيش معه في منزله الكبير الذي يقطنه مع زوجته بعدما هاجر جميع أولاده الى أوروبا، فوافق على الفكرة مبدئياً، وسيرحل الى هناك مطلع الأسبوع المقبل». واتّخذت أسرة أبو ماري الاحتياطات ذاتها التي قام بها المسيحيون النازحون والمهاجرون قبلهم، فوضعت أقفالاً حديداً كبيرة وتركت مفتاح المنزل لدى صديق مسلم يثقون به في حال احتاج أمراً ما من منزلهم. ويؤكد الرجل الذي يستعد للنزوح من منزله بعد أيام انه «يرفض الهجرة أو السفر الى خارج البلاد طالما كان هناك مكان آمن يمكنه اللجوء إليه في الأوقات العصيبة»، لكنه لم يستبعد أن يعود الى بغداد لبيع منزله في حال قرر الاستقرار في الإقليم في شكل نهائي.