لا شك في أن إسرائيل تريد أن تجعل القرن الأول من الألفية الثالثة عصر التسلط الإسرائيلي على المنطقة. وظهرت علامات منذ أحداث أيلول (سبتمبر) التي مكّنت لواشنطن الانطلاق بالحملة العالمية لمكافحة الإرهاب كما تفهمه أميركا، وبما يتفق مع متطلبات العصر الإسرائيلي وهيمنة الدولة العبرية في المنطقة العربية. ويضيق المقام عن رصد مظاهر بزوغ العصر الإسرائيلي، لكنها واضحة في الساحة الفلسطينية، وفي إخضاع المنطقة العربية، وفي القرار السياسي الأميركي والأوروبي. وعادت إسرائيل مرة أخرى للعزف على أسطورة العداء للسامية في ثوب جديد ومتجدد. فقد استخدمت العداء للسامية في القرن التاسع عشر بمعنى العداء لليهود كي ينطلق المشروع الصهيوني في ثوبه النهائي، ولما تطورت السياسات الدولية طوردت الحركة الصهيونية في العالم كله بل تم تجريمها في قرار الجمعية العامة الشهير عام 1975 وبعد ذلك بأحد عشر سنةً، وبعد تغير البيئة العربية والدولية وانتهاء الحرب الباردة وبداية العزف على سيمفونية جديدة اسمها عملية السلام، تمكنت واشنطن وإسرائيل من استصدار قرار جديد ينهي تجريم الصهيونية باعتبارها من جرائم العنصرية في القانون الدولي على رغم أن كل مقومات الصهيونية التي استدعت تجريمها تكرست على الأرض، ولذلك من الخطأ أن نصف تشريعات الكنيست الهادفة إلى طرد الفلسطينيين بأنها عنصرية أو حتى استعمارية، لأن الاستعمار لم يدع ملكية أراضي المستعمرات. وعلى أية حال فإن القرن الإسرائيلي واستناده إلى الأوهام والخرافات يحتاج إلى دراسات أعمق، لكن يهمنا أحدث مفهوم ظهر لمعاداة السامية. فليس صدفة أن معاداة السامية ظهرت في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر حيث ظهر المفهوم المتطور في فرنسا أيضاً في الأسبوع الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) 2010 عندما تم استدعاء عضو في مجلس الشيوخ من أصل عربي إلى القضاء لمحاكمتها بتهمة معاداة السامية والحض على العنف والكراهية العنصرية لمجرد أنها انتقدت وحشية إسرائيل ضد النشطاء المدنيين في «أسطول الحرية». معنى ذلك أن جرائم إسرائيل التي سجلتها التقارير والتحقيقات الدولية هي بطولات ضد الأعداء في نظر الادعاء الفرنسي وأن القضاء ليست مهمته تعريف معاداة السامية والأفعال التي تكون هذه الجريمة، لكنه سيعمد إلى بحث مدى توفر القصد الجنائي في سياق حرية التعبير عن رأيها في سلوك إسرائيل. هذه الحادثة تعني أن أوروبا لم تعد تعتبر هولوكوست غزة جريمة من الناحية السياسية، على خلاف القضاء الأوروبي الذي اعتمد على تقرير غولدستون وأوصافه القانونية للسلوك الإسرائيلي لملاحقة المجرمين الإسرائيليين، لذلك اتجه الجهد لإفلات هؤلاء ليس من طريق المنازعة في الطابع الإجرامي للعمل، أو في نسبة الفعل إلى الفاعل، وإنما بتوفير الإفلات الإجرائي من طريق التشريع. بعبارة أخرى عمد بعض البرلمانات في إسبانيا وبلجيكا وغيرهما إلى تفريغ مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني في جرائم النظام العام الدولي من مضامينه الحقيقية على رغم أن مبدأ الاختصاص العالمي اخترعته الأوساط الصهيونية وتوسعت فيه توسعاً فريداً فصلته محكمة تل أبيب التي حاكمت إيخمان عام 1961 - 1962 فقررت المحكمة أنها مختصة بالمحاكمة على رغم أن المتهم غير يهودي أو إسرائيلي، وعلى رغم أن المحرقة وقعت قبل قيام إسرائيل لأن إسرائيل هي وكيل الدم عن كل اليهود في كل العصور وفي كل مكان، وعلى رغم أن المتهم تم الإتيان به من طريق الخطف من الأرجنتين حيث كان قد فر عقب أحداث المحرقة. ومن الواضح أن مصادرة الحق في الحرية والبحث في شأن كل ما يتعلق بالمحرقة اليهودية في ألمانيا تستند إلى قانون يسود أوروبا، وأن المتهم بانتهاك هذا القانون هو متهم أيضاً بمعاداة السامية. ولكن الجديد أن ما حدث في فرنسا يعني أن أعضاء مجلس الشيوخ لا حصانة لهم، ولا حق في إبداء الرأي، وللقضاء اختصاص محاكمتهم لأن هؤلاء الأعضاء هم الأخطر في التجرؤ على جرائم إسرائيل. يضاف إلى ذلك أن القضاء الفرنسي لم يختبر بعد في قضية يكون موضوعها جرائم إسرائيل في غزة أو ضد «أسطول الحرية» أو ضد شهداء المقاومة، وهذه في ما يبدو طوائف ثلاث في المنظور القانوني الإسرائيلي الذي تريد إسرائيل فرضه على القضاء الأوروبي، وهي مرحلة متقدمة من مراحل تطور بزوغ القرن الإسرائيلى. فلا شك في أن إسرائيل تنظر إلى ضحايا غزة على أنهم يستحقون الإبادة لأنهم لم ينكروا منظمة حماس وهم الذين صوتوا لها في انتخابات كانون الثاني (يناير) 2006، كما أنها ترى أهل غزة محتلين وطناً يهودياً، ومن باب أولى ترى إسرائيل أن المقاومة إرهاب مركب، اعتداء على إسرائيل، يضاف إلى أن الوجود الفلسطيني هو غصب مستمر لحق اليهود في الأرض. وكما قبل العالم أن تكون هي وكيل الدم لكل اليهود، فقد قبل العالم أيضاً في ما يبدو حق إسرائيل في إبادة غزة واغتيال زعماء المقاومة، مثلما استكان إلى النظرية الإسرائيلية بأن «أسطول الحرية» يهدف إلى دعم «الإرهاب» في غزة ضد خطط إبادة أهلها. ولذلك هنأ أوباما أبو مازن بعد أن قتلت سلطات الأمن في الضفة اثنين من المطلوبين من حماس، في إطار التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل. وأخيراً، يجب التساؤل عن موقف القضاء الأوروبي والأميركي من قانون مناهضة أعداء السامية والذي يفسر معنى معاداة السامية بأنه أي اعتراض على سياسات إسرائيل بما في ذلك مذابحها ضد الفلسطينيين. وهل يدين القضاء الفرنسي السيدة عضو مجلس الشيوخ وفق قانون جيسو الفرنسي الصادر عام 1992 أم سيعتبر القضاء الفرنسي أن القانون الأميركي لمعاداة السامية والذي ألزم الإدارة الأميركية بتسويقه عالمية جزءاً من القانون العالمي الذي يعاقب كل من يتجرأ على نقد السياسات الإسرائيلية، وتلك أبلغ الإشارات إلى بزوغ العصر الإسرائيلى. غير أن المشكلة ليست في بزوغ عصر معين بقدر أثر هذا البزوغ في قيم الحق والعدل والقانون في العلاقات الدولية. لقد سادت العالم امبراطوريات كبرى عبر التاريخ، ولكن هذه القيم كانت سائدة إلى حد ما وفقاً للمصادر الأخلاقية للدولة التي هيمنت على العالم. وعلى رغم ذلك فإن هشاشة المشروع الصهيوني وقابليته للكسر والاندثار تعتمد على قوة الإطار العربي الذي سيتحدى القرن الإسرائيلي، وهذه الطبيعة الخاصة للمشروع الصهيوني هي التي تجعل الحديث عن مستقبله وليس مستقبل السلام الأقرب إلى منطق الأمور. * كاتب مصري