بين أمس علت فيه أصوات مصرية إعلامية معترضة على تسليط الأضواء الغربية على العمليات الإرهابية المتناثرة التي تشهدها البلاد وجعلها تبدو وكأنها حرب أهلية، أو صراع بين السلطة وجماعات معارضة، أو ردود فعل انتقامية متوقعة لمجموعات عانت الظلم والقهر على مدى سنوات، فإذ بها تنتفض في وجه قوات الأمن، ويوم ارتفعت فيه أصوات إعلامية غربية مكتوية من النيران نفسها، أشهر مفصلية شهدت تمدد نار العمليات الإرهابية لتثبت أنها عابرة للحدود والقارات. وما ظنت شاشات الغرب بالأمس القريب أنه سمة من سمات الشرق الأوسط وبلاد ضربها الربيع العربي، تحول اليوم إلى «خبر عاجل» لا يبرح قاع الشاشات والى تحليل صارخ لا يبارح الفقرات والأخبار. الأخبار المتواترة التي شغلت الشاشات البريطانية ليلة حادث وستمنيستر، ودفعت باللون الأحمر المؤشر بأن حدثاً جللاً قد وقع وتوابع تتوالى بدأت تثير هذه الأيام حرباً كلامية ضروساً بين جبهة بريطانية ترى أن التغطية المركزة كانت شراً لا بد منه، وأخرى تتهمها بأن هذا التركيز يمد الإرهاب بأوكسيجين الإعلام ويسبغ على البلاد وصمة الخطر ويضرب السياحة في مقتل ويؤثر في الاقتصاد المتأثر أصلاً. أصول تغطية الحوادث الإرهابية، وهي الأصول التي ينظر كثيرون في بلاد العرب إلى الإعلام البريطاني باعتباره نموذجاً يحتذى في قواعد التغطية والحياد، تتعرض هذه الآونة لانتقادات شديدة واعتراضات عنيفة من أهل المهنة في بريطانيا نفسها. «مساندة الإرهابيين ودعهمم» تهمة رهيبة لصقها صحافي بريطاني مخضرم هو السير سايمون جنكينز للتغطية الإخبارية التي بثها برنامج «نيوزنايت» الشهير على شاشة تلفزيون «بي بي سي» باعتبارها تساعد الإرهاب وتدعمه عبر تسليط الضوء عليه. رأى جنكينز أنه كان يتوجب على «بي بي سي» وسواها من القنوات التلفزيونية البريطانية أن تتعامل مع مرتكب حادث «وستمينستر» باعتباره مجرماً وليس إرهابياً، مشيراً إلى أن ساعات البث المتواصل والشاشات التي سُخِرت للحدث على مدى أيام دعمت الإرهاب وقوّته وخدمت مصالح المجموعات الإرهابية وذلك بدفع أهدافها إلى نشرات الأخبار ومناقشة غاياتها في برامج التحليل وطرح برامجها في فقرات النقاش. كثيرون ممن ارتعبوا من مغبة الربط بين بريطانيا والإرهاب في الإعلام التلفزيوني حول العالم رأوا في وجهة نظر جنكينز منطقاً مقبولاً. وبينما جنكينز يشرح وجهة نظره في أحد البرامج التلفزيونية كانت الرسائل تتوالى مؤيدة لموقفه. أحدهم حذر من أن هذا التركيز التلفزيوني على حادث إرهابي أقرب ما يكون إلى الفكر الأورويلي (جورج أورويل) في الرواية الأشهر «1984» حيث السيطرة على الجموع بخلق أجواء من الخوف والكراهية والإلهاء. وعلق آخر بأن الشاشات البريطانية لو أفردت بثها في كل مرة يقع فيها حادث سيارة لتحولت الشاشات إلى صفحة من صفحات الحوادث. وفي السياق ذاته، كتب آخر بأن «مثل هذه الحوادث المتفرقة شبيهة بما كان يقترفه «الجيش الجمهوري الإرلندي» في بريطانيا على مدى سنوات طويلة بدأت في سبعينات القرن العشرين، لكن الفرق الوحيد والذي يجعل من حادث مثل وستمينستر يبدو عملاقاً أنه باتت لدينا مئات القنوات التلفزيونية وتغطيات إخبارية مرئية على مدار ال24 ساعة». وفي اليوم ذاته الذي أعلن فيه «داعش» مسؤوليته عن الحادث، كان جنكينز قد كتب مقالاً في صحيفة «غارديان» البريطانية صاباً غضبه الشديد على كل الشاشات التلفزيونية الغربية التي خصصت بثها للحادث. «لا تملأوا ساعات البث وصفحات الصحف بكلمات مثل الخوف والكراهية والرعب والجنون والوحش. لا تعرضوا لندن وكأنها فيلم رعب. لا تتمنوا أن يكون لدينا أسامة بن لادن جديد. لقد أدت تصرفات المسؤولين والإعلام إلى حالة من هيستيريا الإرهاب. لقد كان ما حصل في وستمنيستر حادثاً فردياً اقترفه شخص وحيد لا يمتلك حتى سلاحاً». وحذر جنكينز في مقاله من «تكرار ما فعله طوني بلير (رئيس وزراء بريطانيا السابق) حين أرسل إلى مطار هيثرو دبابات لمجابهة الإرهاب. لقد كلفنا هذا ملايين الجنيهات (الأسترالية) متمثلة في إلغاءات بالجملة لحجوزات السياح. والله وحده يعلم حجم الأموال والوظائف التي ضاعت بسبب هذه التغطية التلفزيونية المتهورة». «هذه التغطية التلفزيونية المتهورة» هي ما تشهده الحوادث في مصر على شاشات غربية وبريطانية عدة على مدى العامين السابقين. فبدءاً بألفاظ ومصطلحات تصف ما يجرى في شمال سيناء باعتباره «تمرداً» أو «ثورة» من سكانها ضد الدولة المصرية وما تقوم به قوات الأمن من جهود ملاحقة «الإرهابيين» ب «إجراءات قمعية» و «تصرفات هوجائية» مروراً بالمواجهة بين الجيش والشرطة المصرية من جهة والجماعات التكفيرية (التي أعلنت مبايعتها لداعش) باعتبارها مواجهة مسلحة بين خصمين، وانتهاءً باستضافة الشخصيات المعروفة بمعارضتها للنظام المصري واختيار المصريين لإنهاء حكم «الإخوان» دوناً عن غيرها في برامجها، تصاعدت اعتراضات إعلامية على ما أسمته بالتغطية الانتقائية لحوادث الإرهاب، حيث أضواء مسلطة ومكبرة ومركزة على الحوادث في مصر، والتعامل مع الحوادث الشبيهة في أنحاء أخرى من العالم باعتبارها «فردية» أو «جنائية» أو «غير مؤثرة» وذلك حفاظاً على الروح المعنوية للبلاد، وعائدات السياحة للبلاد. الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجه في شباط (فبراير) الماضي أصابع اتهام إلى وسائل إعلام واصفاً إياها بالتغاضي عن تغطية هجمات إرهابية يرتكبها «إرهابيون إسلاميون متشددون». ووصل الأمر إلى إصدار البيت الأبيض قائمة تحوي عشرات الحوادث الإرهابية التي وصفها ترامب بأنها «لم تحظ بالاهتمام اللازم». وقد بات لازماً هذه الآونة أن تعيد دول العالم النظر في سياساتها الإعلامية في ما يختص بتغطية حوادث الإرهاب، فما يبدو إرهاباً في الشرق قد يتحول جريمة عادية في الغرب. وما كان ينظر إليه باعتباره حياداً ومهنية وعدم افتراض الإرهاب في الجماعات الثورية الهادفة إلى الانفصال أو نشر الخلافة الإسلامية ربما يكون انحيازاً وجريمة في حق المهنية ودعماً لتفتت الدول وتمدد مشروعات كمشروع «داعش». مراجعة أرشيفية أو عنكبوتية سريعة تشير إلى انعدام العدالة في تغطية الإرهاب وتبخر قواعد المهنية حين يدق الإرهاب الأبواب.