تقول الورقة البحثية التي قدمتها في القاهرة أخيراً الكاتبة رشا حسني بعنوان «الكتابات النسائية بين الانطباعية النسائية والنقد النسوي»، إن هدفها «مناقشة الفروق بين الكتابة النسائية الانطباعية والكتابة النقدية النسوية وهل تُمثل اتجاهاً نقدياً فعلياً في الحياة السينمائية المصرية كما هي في الخارج أم أنها لا تزال في طور التكون والتشكل؟». ولا شك في أن الموضوع مهم ولافت للانتباه ومثير للاهتمام، لكن المدهش أن الكاتبة لم تحدد فترة زمنية لمشروع بحثها، ما يعني أنها تقوم بتغطية الفترة الزمنية منذ ظهور أول كتابة نقدية نسائية في مجال الفن السابع، وهى فترة زمنية طويلة وممتدة وتحتمل أن تكون مشروعاً بحثياً ضخماً له أهميته، ودلالاته الاجتماعية، والثقافية الخطيرة في نتائجها لو نهض وفق معايير ومقاييس علمية أمينة. فهل حقاً نجحت رشا حسني في أن تلتزم الحيادية والموضوعية وأن تعتمد على منهج علمي يجعلنا نثق في سطور ورقتها «البحثية»؟ وهل التزمت بالأسلوب العلمي؟! نماذج محدودة منذ البداية بعد سؤالها العام السابق، تصعقنا حسني بقرارها «غير العلمي» أنها سوف تقوم «بالتطبيق على بعض النماذج –على قلتها– المتاحة التي رأت أنها قد تساعد في توضيح وجهات النظر والأفكار التي تعرضها الورقة البحثية». وبالتالي «اختارت» صاحبة الورقة هذه النماذج «المنتقاة»؟! فهل تم الاختيار وفق مزاج شخصي؟ وفق قرار انطباعي غير منهجي؟ ولماذا قررت أن تكون النماذج قليلة؟ هل هذا يعني أن مصر لم تنجب –على مدار تاريخها النقدي السينمائي– نساءً مارسن الكتابة النقدية سواء كانت كتاباتهن موسومة بالانطباعية أو النسوية؟! أين هي الباحثة من أسماء عديدة مثل: ماجدة خيرالله، وماجدة موريس، ونهاد إبراهيم، وحنان شومان، وخيرية البشلاوي، إيريس نظمي، أمينة الشريف، ونعمت الله حسين، وفريال كامل، وعلا الشافعي، وصفاء الليثي، وحتى ماري غضبان التي كرست حياتها كناقدة سينمائية وكانت أحد مؤسسي جمعية كتاب ونقاد السينما ونالت عدداً من الأوسمة من وزارات الثقافة بدول فرنسا وإيطاليا وألمانيا والتشيك؟ وأين هي من أسماء المخرجات اللائي بدأن مشوارهن بالكتابة النقدية السينمائية، مثل المتميزة في وعيها وثقافتها الخصبة هالة لطفي، وهناك أكيد أخريات ستتم إضافتهن إلى القائمة إن أُجري مسح شامل لكل الكاتبات النساء في مجال النقد السينمائي أو الصحافة السينمائية، سواء اتفقنا أو اختلفنا معهن، وسواء كانت كتاباتهن نسوية أو انطباعية، فكيف لنا أن نحكم مسبقاً ونصادر النتيجة قبل أن نسير في خطوات البحث ونستحضر كتاباتهن ونفحصها، ونتأملها، ونحدد هويتها وملامحها؟ ثم ماذا تعني كلمة «المتاحة» التي استخدمتها رشا حسني؟ هل كانت تقصد أن أعمال هؤلاء الكاتبات ومقالاتهن غير متاحة تحت يديها لحظة كتابتها البحث؟ هل لأنها لم تجد الوقت الكافي للبحث والتنقيب وفق الأصول العلمية للبحث؟ أم أنها كانت تقصد أنها غير متاحة في الأرشيف السينمائي؟ صحيح ليس لدينا أرشيف سينمائي بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن هناك أماكن بحثية يمكن من خلالها الخروج بكنوز تُضيء مناطق مهمة في البحوث، ومنها الأرشيف المتوافر في كل مؤسسة صحافية بمصر، مثل أرشيف الأخبار، والأهرام، ودار الهلال، والمركز الكاثوليكي للسينما، وأرشيف دار الكتب المصرية. لكن ما سبق من المؤكد أنه الطريق الذي لن يسلكه إلا كل باحث جاد مخلص لموضوعه قادر على الترفّع عن أي بادرة انتهازية وعن الاستسهال في تعامله مع القارئ لمجرد أن يُقال إنه شارك ببحث أو ندوة سينمائية لكي يُضيفها إلى صحيفة سيرته الذاتية كي يُروج لنفسه فيتم ترشيحه لأعمال أخرى، بغض النظر عن كفاءته أو مهنيته. فما أكثر الكتب التي تصدر من مصر في المجال السينمائي ولكن أغلبها بلا أي قيمة، بل إنه أصبحت هناك جملة مشهورة عندما يُنشر خبر، وهي أن «فلاناً» سيتولى تأليف كتاب عن موضوع معين أو شخصية بعينها فيكون الرد «ودي فكرة كتاب تم قتلها؟». لماذا يُقال هذا؟ لأن الأماكن التي تتولى الإنفاق على الكتب وتمنح مكافأة للمؤلف محدودة ومعروفة، وغالباً تابعة للدولة أو المهرجانات، وإذا خرج الكتاب بشكل ضعيف أو ركيك فلن تعيد المؤسسة إصدار كتاب آخر عن الموضوع أو الشخصية نفسيهما، لأنها تريد وجوهاً جديدة للترويج والدعاية، لذلك فإن الباحث الجاد لو قرر الكتابة في الموضوع ذاته عليه بالمغامرة وتحقيق كتابه قبل أن يبدأ رحلة البحث عند دور النشر التي تبدأ مساومته. حيثيات اختيار بعيداً من تعدد القفزات من فكرة لأخرى بعيداً من مضمون البحث وطرح العديد من الأسئلة من دون تقديم أي أجوبة منهجية عليها، اختارت صاحبة الورقة البحثية بعض نماذج قليلة جداً من مقالات كاتبة هذه السطور، فلماذا وعلى أساس علمي فضلتها على الكاتبات الأخريات، خصوصاً من الأجيال السابقة، اللاتي قضين أعمارهن في تلك المهنة؟ فهناك ناقدات جمعن بين العمل في الفن خلف الكاميرا أو في غرفة المونتاج وبين الكتابة النقدية مثل صفاء الليثي، وأخريات جمعن بين كتابة السيناريو وبين النقد، ماجدة خيرالله نموذجاً، وماجدة موريس التي قدمت عدداً من الدراسات عن المرأة المبدعة، أليس اختيار رشا حسني يُعد انتقاءً يفتقر إلى المعايير والمقاييس العلمية البحثية؟ ثم لماذا وعلى أساس قررت حسني أن تختار عملين أو ثلاثة هي في الأساس مقالات، وليست دراسات تخضع مثل غيرها لمعضلة تقلص مساحة نشر النقد السينمائي في الوطن العربي؟ المنهج العلمي يقول إما أن تدرس جميع كتابات المبحوث أو أن تجد مبرراً منهجياً علمياً يُفسر لماذا اخترت نماذج بعينها. فهل يُمكن أن تخبرنا صاحب الورقة البحثية لماذا تركت تسعة كتب في مجال النقد السينمائي للشخصية المبحوثة وقررت أن تستعين بهذه المقالات؟! اختارت الباحثة تعريفاً للنسوية من أحد المراجع يقول: «النسوية هي إيمان بالمرأة وتأييد لحقوقها وسيادة نفوذها»، فهل يجب في نقدنا كل عمل فني أن نتحدث عن ضرورة سيادة نفوذ المرأة –في الحق والباطل «عمال على بطال»– حتى نصبح نسويين؟ وما هو الفرق إذن بين النسوية وأفكار المجتمع البطريركي ومعتقداته وسلوكياته؟ أليس الدفاع المستمر عن المرأة من دون وجه حق يُعد الوجه الآخر البطريركي للعملة؟ وهل من الحتمي على أي كاتبة نسوية أن لا تتحدث عن حقوق الرجل أيضاً؟ وهل إذا قامت أي ناقدة بالإشارة إلى حقوق الرجل والضغوط الواقعة عليه والقهر المجتمعي الذي يعانيه هو أيضاً، ستفتقد كتابتها ما يميز النقد النسوي؟! هل أصبح من المحرم على الكتابة النسوية أن تكون حيادية وموضوعية وأكثر رحابة وإنسانية في ما يخص نظرتها إلى الرجل؟! صاحبة الورقة البحثية -المقدمة تحت رعاية جمعية نقاد وكتاب السينما المصريين وبدعم من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة!- تأخذ على كاتبة هذه السطور إنصافها الرجل، بتأكيدها أن فكرة تشييء جسد المرأة في العمل الفني طاولت أيضاً جسد الرجل، ولذلك اعتبرت رشا حسني أن أسلوبي في التناول هو «كتابة انطباعية غير مُمنهجة»، خصوصا أنني أكدت تشييء صورة الرجل أيضاً، مثله مثل المرأة، في مقال آخر بعنوان «اللي اختشوا ماتو فيلم ضد المرأة والرجل أيضاً»؟ لماذا العجلة؟ المثير للدهشة أن رشا حسني، إلى جانب افتقاد ورقتها «البحثية» المعايير العلمية وتشي قراءتها بأن كتابتها تمّت على عجالة شديدة واستهانة بتقاليد البحث العلمي ليس فقط في ما يخص المراجع، كانت تستعين مرات عدة بعدد كبير من سطور مقالتي، حتى أن بعض الفقرات المقتبسة بلغت اثني عشر سطراً، وهو علمياً أمر مرفوض تماماً، إذ كان عليها تلخيص الفكرة. مثلما تكشف ورقتها ورؤيتها عن نقص شديد في الثقافة والوعي وعدم متابعتها البحوث والدراسات، فقد افترضت في ما يخص تأكيدي تشييء صورة الرجل كما حدث مع المرأة، أنني ساويت بذلك بين وجهة نظري الخاصة وبين النظرية النسوية في النقد للمفكرة النسوية المعروفة لورا ميلفي في دراستها «المتعة البصرية والسينما الروائية»، فهل رشا حسني لم تقرأ أو تسمع عن الدراسات المهمة المُجمعة بعنوان «الرجل على الشاشة.. استكشاف الذكورة» التي ترجمها إلى العربية الناقد السينمائي عصام زكريا وتتضمن ثلاث عشرة دراسة تكشف بالتحليل العميق أن التطلع والفرجة في السينما لا يقتصران على النساء وأجسادهن ولكنهما يطاولان الرجال وأجسادهم أيضاً بأشكال مشابهة ومختلفة، وذلك من خلال رصد العلاقة بين الفن والمجتمع، ودراسة الطبيعة الثقافية والفكرية والنفسية لهذا المجتمع، وتحليل صورة الرجل على الشاشة من خلال مجموعة من الأفلام تنتمي في معظمها إلى الأنواع الشعبية الناجحة تجارياً. للأسف الورقة البحثية حافلة بالمشكلات، وموسومة بالانحياز وازدواجية المعايير، كما أنها تفتقد الصدقية في نتائجها، ما يجعلنا نتساءل: ألم يحن الأوان لتقديم بحوث في ما يخص النظرية النسوية بشكل خلاق يتسم بالاختلاف والموضوعية والجدة؟