لو تخيلنا أن هناك رجلاً غاب عن الدنيا في عام 1000 وعاد إليها في عام 1900، ولنقل إنه استغرق في سُبات عميق لفترة تسعة قرون من الزمان، ورجلٌ آخر ترك الدنيا عام 1900 وعاد إليها بعد 100 عام فقط، أي في عام 2000 ميلادية. العجيب أن الرجل الثاني سيصاب بالجنون أكثر من سابقه، وقد لا يحتمل ما طرأ على الساحة من تقنيات في ال «100 عام» الأخيرة بصفة خاصة، وكيف لا يتعجب وقد رأى الحديد وهو يطير، والناس يتحاورون وبينهم آلاف الكيلومترات، واستنساخ كامل لجميع الأحداث العالمية بالصوت والصورة في لحظة الحدث والاجتماعات عن بُعد عبر الشبكة العنكبوتية، ناهيك عن الحاسب الآلي وما فعل بنا جميعاً في القرن ال «20» ودخوله في كل شبر من أركان حياتنا، وقد نسأل أنفسنا «لماذا حدثت كل هذه التطورات في ال «100 عام» الأخيرة بالذات، ولم نجد مثيلاً لها منذ آلاف السنين؟»، وتأتي الإجابة عن ذلك بعد إرجاع الفضل لله تعالى بأن سخر لنا اكتشاف قطعة في حجم رأس الدبوس لها ثلاثة أرجل نطلق عليها «الصمام الثلاثي أو الترانزيستور»، هذه القطعة التي تعتبر من عائلة أشباه الموصلاتsemi conductors واكتشفها ثلاثة فرسان من علماء الفيزيقا في الولاياتالمتحدة الأميركية في معامل بل «Bell Labs» في 1947 «غون باردين ووالتار براتين وويليام شوكلي»، والعجيب أنهم لم يحصلوا على جائزة نوبل إلا بعد تسع سنوات من هذا الاكتشاف العبقري الذي لم يحلم أحد بجمال وعظمة الإنجازات التي ستتحقق على أيديهم بسببه، هذا العفريت ضئيل الحجم الذي نلخص عمله ببساطة في كونه يقوم بتحويل التيار المتردد إلى تيار مستمر من دون انبعاث حراري كان يؤرق العلماء وقت اكتشاف الصمام الثنائي «Diode» مع تكبير الإشارة والتيار الكهربائي عن طريق أرجله الثلاثة (الباعث emitter – و المجمع collector – والقاعدة Base)، ومن هنا تحرك جميع العلماء بعدها لتحويل أجهزة كثيرة من تقنية الصمام الثنائي واللمبات التي كانت تشع حرارة وتفسد سريعاً وحجمها ضخم إلى أجهزة مماثلة في الوظيفة وأكثر مرونة وأقل حجماً ولا يخرج منها أي إشعاعات حرارية، ويتجلى مثال تلفاز اللمبات وتلفاز الترانزيستور والفرق بينهما لتوضيح الإنجاز الكبير الذي حققته البشرية باكتشاف هذا الاختراع الفذ، إذ إنني وأبناء جيلي كنا نتلقى نصائح من أولياء الأمور بإطفاء جهاز التلفاز في السابق الذي كان يعمل باللمبات بعد فترة معينة، لأنه أخرج حرارة كافية ولابد لنا أن نريحه قليلاً نظراً إلى بدئه في العرض بصورة رديئة، وتلك الكلمات لم نعد نسمعها الآن، لأن تلفاز الترانزيستور أصبح أقل حجماً وأكثر كفاءة ولم يعد يخرج أي نوع من الحرارة مهما طالت فترة تشغيله، ناهيك عن الراديو اللمبات والراديو الترانزيستور. أما عن الحاسب الآلي فحدث ولا حرج، الحاسبات الآلية التي تعمل باللمبات لا تمت بصلة بما يعمل الآن بالترانزيستورات والدوائر المجمعة، فمثلاً، أول حاسب آلي في العالم ظهر على يد فون نيومان ومجموعة من العلماء في مدرسة مور للهندسة والعلوم التطبيقية بجامعة بنسلفانيا بالولاياتالمتحدة الأميركية في يوم 14 شباط (فبراير) عام 1946، وكان يعمل باللمبات والصمامات الثنائية، وأطلقوا عليه ENIAC (Electronic Numerical Integrator and Computer) وكان بحجم مبنى مكون من طابقين تنبعث منه حرارة تخيف كل من يجلس بجواره أثناء عملية تشغيله وكانوا يقومون بتبريده بالماء كل عشر دقائق، وعلى رغم كل هذا العذاب كانوا يشعرون بسعادة بالغة عندما يدخلون بيانات يجمعها ويطرحها هذا العملاق ليخرج لهم نتائج كانت وقتها ضرباً من الخيال لمجرد محاولة محاكاة العقل البشري عن طريق التقنية. وجاء عفريت المئوية الأخيرة ليفجر ثورة كبيرة في عالم الحاسبات، إذ جعلها قطعاً متنقلة بسهولة ويسر في جيوب الناس ولا تخرج حرارة على الإطلاق وتقوم بتجميع البرمجيات والمعالجات الحرفية للبيانات حتى أننا اليوم نرى قطعة في حجم الإبرة تدير مصانع ومؤسسات وحدها من دون أي تدخلات يدوية. ومن هنا لا يسعنا إلا أن نقف أمام الترانزيستور وما شابه من اختراعات ونقول لرب العلمين (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)، والله الموفق إلى سواء السبيل. طارق القرم - الرياض منسق الجودة والتدريب بإدارة الحاسب الآلي مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي