بات الشّعر الحديث، في مجمل تجلّياته، يخبر عن ذاته بالقدر الذّي يخبر فيه عن العالم، ويحيل على نفسه بالقدر الذي يحيل فيه عن الواقع. فالقصيدة الحديثة، إذا أخذنا بالتشبيه الذي تواتر في النقد الحديث، ليست زجاجاً شفّافاً ننظر من خلاله الى الّدلالة، وإنّما هي زجاج معشّق تغطّيه الزّخارف والألوان بحيث لا ننظر من خلاله الى ما يقع وراءه فحسب، بل إنّه يشدّنا أيضاً الى صوره وألوانه ومختلف زخارفه... ومجموعة «محمد غبريس» الجديدة «نبض الأقحوان» الصّادرة عن دار حوار تندرج ضمن هذا التصّور لفعل الكتابة، فهي تنهض بهذه الوظيفة المزدوجة: وظيفة الإحالة على نفسها بوصفهاً خطاباً لغويّاً متميّزاً، ووظيفة الإحالة على الواقع الذي صدرت عنه. واندراجها ضمن هذا التصّور لفعل الكتابة لا يعني أنّ «غبريس» ينتمي الى تيّار شعريّ مخصوص، يحاكيه أو يحاذيه، فتجربة هذا الشاعر تمثّل، مثل كلّ التجارب الحديثة، تجربة الذّات المفردة تسعى الى تأكيد اختلافها عن التجارب الأخرى، وتسعى، في الوقت ذاته، إلى تأكيد اختلافها عن نفسها باستمرار. بالشعر توسّل «محمد غبريس» ليفصح عن هذه المعاني أعني ليفصح عن تمثّله لوظيفة الشّعر، وتوسّله لفعل الكتابة... ففي قصيدة «صديقي الشعر» التي استهلّت بها المجموعة يخاطب غبريس الشعر، يعقد حواراً معه، يستدرجه الى صداقة محتملة، يتودّد إليه. لكنّ أهمّ ما تضمنته هذه القصيدة / المقدّمة تساؤلها عن وظيفة الشّعر، عن علاقة الشاعر بالذّات و «بالآخر». وتأتي الاجابة عن هذا التساؤل في آخر القصيدة في شكل صورة شعريّة، «إنّني أسرجت قلبي في الطريق»، موحّدة بين الداخل والخارج، بين القلب والطّريق، فبالشّعر يستضيء الشاعر، وبه يهتدي في عتمة الوجود. لا شكّ في أن عبارة القلب، في هذا السياق، مفعمة بمعان صوفيّة لا تخطئها العين. فالقلب بات مصدر الضوء، أي مصدر المعرفة، أي مصدر الشعر يفيض على الخارج، ويغمره بضوئه العميم... إنّه مصباح الشاعر يحمله ليبدّد ظلام الطريق. كلّ هذا يشير إلى أنّ الشّعر لدى محمد غبريس يوجد في الدّاخل، في مملكة الوجدان، في قارّة الأعماق. وهذا لا يعني بالطبع أنّ الشّعر تحوّل، كما هو الحال عند الرومنطيقيين، الى فيض عفويّ للمشاعر، ليس للشاعر من دور فيه سوى نقل الاحاسيس من عالم النفس المظلم الى عالم اللّغة الجليّ. فهذا التصّور للكتابة بات يندّ عنه طبع الشّعر الحديث... ولكن هذا يعني أنّ محمد غبريس أهاب بخطابات شعريّة سابقة، وفي هذا السيّاق أهاب بالخطاب الصّوفي، ليقول تجربته، ويفصح عن عميق رؤاه. ومن القصائد الأخرى التي انطوت على تمثّل الشاعر لوظيفة الشعر وتمثّله لفعل الكتابة قصيدة «لحن الكتابة»، فهذه القصيدة قد جمعت بين الشعر والغياب جمع قرين بقرين... وهي بذلك تكشف عن السلك الذي يجمع بين كلّ قصائد المجموعة على اختلاف مضامينها، وتباين مواضيعها. فقارئ «نبض الأقحوان» يلحظ أنّ الغياب هو مولّد الدّلالات، منه تتحدّر الصّور يأخذ بعضها برقاب في ضرب من التداعي الذي لا يراه. فقصائد غبريس تتبدّى للوهلة الأوّلى، وكأنّها تدور حول «موضوعات» شتّى لا ينتظمها عقد جامع. غير أنّ المتأمّل فيها لا بدّ من أن يلحظ أنّها، على اختلاف مضامينها، وتباين مواضيعها، منشدّة الى دلالة واحدة هي دلالة الغياب. لكأنّ الشّعر لا يبدأ إلا حين تختفي الكائنات والأشياء ولا تترك وراءها غير ذكرى رائحة، غير ذكرى صوت بعيد. ففي هذه اللحظة ينهض الشّعر ليقاوم النسيان، ويعزّز ملكة التذكّر ويرسى كينوبة الأشياء في وجه كل ما هو متغيّر، «دعيني أستعيد ولادتي / وقصيدتي الولهى / خذيني للحقول ومنبت الذكرى / غطيني بسنبلة، ونجم / كلّما استلّ الضّحى شفتيك / أنا الذي عاث الفراق بأضلعي / وتقاسم البارود / زهر طفولتي / وأنا الذي نقش الحنين / دمي / وصار العمر جرحاً غائراً /. كلّ قصائد المجموعة تهجس بهذه الدّلالة دلالة مقاومة النسيان، واستحضار كلّ الكائنات التي توارت، كلّ اللّحظات التي انطفأت/ عادوا مكفّنين / بالغياب / أودعوا هناك / تحت جلد البحر / جمر الانتظار / كلّ العيون تشرئب / حرقة / للقادمين / من نوافذ الدّجى / يتبع الحلم وتزهو ذكرياتي /... أخلع جلدي / ألبس الذكرى وربما أمّي / ستأتي بي قريباً ذات حمل». القصائد هنا ذات نبرة غنائية عالية، عوّلت على الإيقاع بوصفه مكوّناً رئيساً من مكوّنات القصيدة، محافظة على الوزن والقافية بوصفها مصدراً من مصادر هذا الايقاع، لكنّ الوزن والقافية لا ينهضان بدور إيقاعي فحسب، وإنّما ينهضان بدور بنائي ومعنوي في آن، فهما يجمعان مفترق القصيدة، ويشدّان أطرافهما شدّ تآزر وانسجام... فالشاعر ظلّ في كلّ قصائد الديوان، يفصح عن تجربته من خلال هذه الدّلالة الموقّعة، أعني من خلال هذا الإيقاع الدّال: «سلامّ للتي جاءت / إليّ / وبين كفّيها / ورود العيد / ذات وطن / سلام للتي امتزجت / بلون البرتقال / وعطر ذاكرتي / سلام للتي اتشحت بعرس / وارتمت بكفن / سلام للجميلة / إذ لديها قلب شمس / مشرق أبداً / ووجه عدن... /عودي إليّ بوصل / واسكني الحدقا / عودي كما كنت فجراً /، في دمي طلقا / لي أنت / نهر من الأشواق رافده / ونجمة فوق خدّي / تسكب الألقا». لكنّ الإيقاع في ديوان «نبض الأقحوان» لا ينبثق من الوزن والقافية فحسب، وإنّما ينبثق من مصادر أخرى أخفى وألطف أعني تردّد الأصوات، وتكرار التراكيب، وتواتر البنى الصوتية والنحويّة. وهذا يعني أنّ غبريس لم يعوّل على «الإيقاع الخارجي» وإنّما عوّل، على وجه الخصوص، على الموسيقى تنبثق من أعماق القصيدة، من الحوار ينعقد بين صورها ورموزها... لكنّ هذه الغنائيّة لا تتأتّى من الإيقاع فحسب، وإنّما تتأتّى من المعجم اللّغوي الذي أهاب به الشاعر، وهذا المعجم متح مفرداته من عالمين اثنين: «عالم الوجدان وعالم الطبيعة». بل إن هذين العالمين كثيراً ما يتحوّلان إلا مرآتين متقابلتين تنعكس احداهما على الأخرى فتتعدد الصّور وتتكاثر الرسوم: «... إنّني في حضرة النرجس / ضوء /... صارت يدي ريحاً وحقلاً.../ هنا صار/ جبيني ظل دوح / وفمي زهرة لوز». لقد ألغى الشاعر، من طريق الاستعارة، الحدود القائمة بين مملكة الانسان ومملكة الطبيعة حتّى أصبحت إحداهما عين الأخرى: «قد تفتّح برعم / في أضلعي / وتسلّقت عينيّ / أجنحة الصّباح / لم يبق منّي غير قافية لها رئة الجنوب / وأدمع تتسلق الماضي... / أحسست بالتراب /يحبو في دمي / والريح تستعير منّي همسها... / كانت يداه تحفران في ضلوعي قبره /...». هكذا تعبث الاستعارة بالحدود القائمة بين الأشياء، هكذا تعيد صياغة العالم، هكذا تؤلف ما اختلف، وتجمع ما تشتّت... فإذا بكل شيء يتبدّى في هيئة جديدة وفي صورة مختلفة. هذا الشعر الذي احتفى بالتراب، والزّهرة، والأرض إنّما أراد أن يعيد النضارة الى الأشياء التي ألفنا، والكائنات التي عرفنا وذلك بإعادة النّظر الى العالم من زاوية جديدة، هي بالتحديد زاوية نظر محمد غبريس... فلا غرابة عندئذ في أن يجعلنا هذا الشاعر نبصر مألوف الأشياء وكأنّنا لم نرها من قبل. أليست وظيفة الشاعر تظلّ، في آخر الأمر، استخراج المدهش من اليوميّ، واستلال الغريب من العاديّ المألوف.